في ذكرى رحيل زايد

03:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

حينما غادرنا المغفور له الشيخ زايد إلى دار البقاء، التقت القوى والتيارات الشعبية كافة، والدوائر الرسمية في معظم دول العالم، على الإشادة الواضحة بحكمة الزعيم الراحل، مؤسس الإمارات الحديثة، وبشخصيته وبسياسته ومواقفه وحكمته، ورؤيته الإنسانية الفذة، وبالدولة الفيدرالية التي أرسى قواعدها، وقادها إلى مدارج التقدم والأمان، وأدار شؤونها وعلاقاتها مع الإقليم والعالم على نحو جدير بالاحترام.
ولقد أبدع المغفور له، وأحسن تدبير وإدارة الحكم في لحظات تاريخية صعبة ومعقدة، ونال محبة غير مسبوقة بين الشعوب، في فترة زمنية وجيزة، وعامله الناس والقادة في الداخل والخارج، ككبيرهم ووالدهم، وليس كرمز مجرد.
لم تفسده السلطة ولا الثروة، ولم ينقلب على نفسه ولا عن تراثه في البساطة والتواضع والاندماج مع الناس، والشجاعة في الرأي.
لقد شكل المغفور له عصارة حقيقية للحكمة الإنسانية الراقية، في التسامح والحوار والعقلانية، واحترام التنوع، والتعاضد العربي والإنساني لإعمار الأرض، وتسوية النزاعات، وغوث المحتاج.
ولم يكن القائد المؤسس الراحل صاحب خطاب فصيح لا صلة له بالحياة، وإنما كان خطابه مباشراً إلى الناس، متلمساً حاجاتهم الأساسية، وبمرجعية أخلاقية، في تعامله مع نفسه ومع غيره، وكان دوماً معياره الخير العام في سياساته الداخلية والخارجية.
وقامت بينه وبين مواطنيه علاقة وجدانية، قوامها المحبة والاحترام، والرضا العام، الذي قال عنه المرحوم المفكر المغربي محمد عابد الجابري: «في الإمارات، شعور عام بالرضا على رئيس الدولة، أقوى منه في أي بلد عربي آخر».
نعم، لا يستطيع الحاكم، مهما كانت سطوته، أن يكون محبوباً وصاحب هيبة محترمة، إذا لم يكن محباً للناس، ويحافظ على حياتهم وحقوقهم، ويوسِّع خياراتهم، ويأمنهم من خوف ومن فاقة وتحارب.
ولقد تجسدت حكمته، ورؤيته النافذة، في بناء دبلوماسية عامة ناجحة، بخطابها المتزن والشجاع والمستنير، البعيد عن الإنشاء والاستعراض، وبهلوانيات السياسة وألغازها، وكان الخطاب مشبعاً بثقافة الصبر وطول النفس، والتي تعلمها من الصحراء، التي كان عاشقها، ومجسداً للمروءات والنخوة الأخلاقية التلقائية، وللعون الإنساني والإنمائي، من غير مِنّةٍ أو ادعاء أو تمييز.
نعم، لقد قدم المغفور له السياسة الخارجية للإمارات بشكل مؤثر ومقنع ومفيد، ورسَّخ الانطباع الحسن والصورة الإيجابية عن الدولة وشعبها وقيمها.
ومن أبرز عناصر فكر القائد المؤسس الراحل، حرصه على المصلحة الوطنية الأساسية، وحماية الكيان الاتحادي الفيدرالي، ضد كافة الأخطار والتهديدات القائمة والمحتملة، واعتبر أن الدفاع عن الاتحاد هو فرض مقدس على كل مواطن.
كما حكمت فكرة «الواقعية السياسية» سياسته الخارجية في إطار من الاتزان والتوازن والاعتدال، ولم تفقد هذه العقلانية، حتى في أحلك ظروف الاحتراب في حوض الخليج، ونشوب النزاعات العربية - العربية، وحافظت على المزاج التوافقي، من دون تفريط في الحقوق والمبادئ.
وتخلصت سياسة زايد، طيب الله ثراه، طوال فترة الحرب الباردة في العالم، من عقدة «الاستقطاب الثنائي»، وقد أتاح لها هذا العنصر فتح دوائر وخطوط واسعة من البدائل والخيارات الوطنية والدولية، خاصة أن المصلحة الإماراتية الوطنية انعتقت من الإسار الإيديولوجي السياسي التقليدي.
كما جسَّدت مدرسة زايد في السياسة والحكم ثلاثية «الأمن الإنساني» من حيث القيادة والرؤية والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية، باعتبار أن الأمن الإنساني، هو عنصر أساسي ومكمّل لأمن الدولة.
كما رأى المغفور له أن «تفاهم الشقيق مع الشقيق وتسامحنا مع بعضنا البعض يزيدنا قوة»، وأن قوة العرب في تضامنهم، وسعى للمصالحة العربية، وأطلق مبادرات متتالية لوقف الحروب الأهلية.
نستحضر روحه في رمضان، ونسترجع ما تعلمناه في مدرسته السياسية، من معاني المرجعية الأخلاقية، المؤسسة على «فضيلة الفطرة»، ومعايير الخير العام، والحس المرهف بمسؤولية رجل الدولة، «والحمدلله الذي خلق الموت والحياة، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"