«ولَسَوْفَ ترضى»

من يوميات عام «كورونا» (9)
02:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

قرأت في أحد صباحات أيام شهر أبريل من عام «كورونا» خبراً ساراً، مؤداه «أن الهواء أضحى أكثر نقاءً وجودة، وأن منسوب التلوث قد تراجع كثيراً، إلى درجة أن سكان نيودلهي الهندية صار بإمكانهم أن يتمتعوا برؤية سلاسل جبال الهملايا، وكذلك الحال، في عدد من مدن العالم الأكثر تلوثاً، في باكستان وبنجلاديش والمكسيك والصين ومنغوليا، ومدن عربية مزدحمة أخرى، حيث صار بإمكان سكانها، وهم في عزلتهم المنزلية، مشاهدة زرقة السماء، ورؤية القمر والنجوم وهي تتلألأ.
في ظل اللحظة الفيروسية الشرسة الراهنة، تقلص استخدام الوقود الصناعي، وعوادم المركبات وغبار الطرق، وتلويث الإنسان للشواطئ ومياه البحر، وغير ذلك من عناصر فتاكة من المواد الجرثومية والكيماوية والصناعية.
تساءلت، وأنا أطل من شرفة البيت متأملاً لحظة شروق شمس الصباح: هل ستشكل أزمة هذه الجائحة الخطرة ثورة بيئية في العالم؟ وهل ستتوقف حروب البشر الانتحارية ضد الأرض وأهل الأرض، وتعيد البشرية النظر بعلاقتها مع الطبيعة، وتُطوِّر الوعي البيئي الصافي لدى الأفراد والمجتمعات في كل البُنى والهياكل الاقتصادية - الاجتماعية والثقافة والتعليمية والروحية والنفسية الراهنة؟
صحيح أن المغامرة البشرية العلمية والثقافية والروحية، نقلت الإنسان من حالة القفز فوق الأشجار، والاختباء في الكهوف، خوفاً من البرق والبرد، إلى حالة التنقل بين الكواكب، وسبر أسرار الذرة والمجهول إلا أن هذه المغامرة البشرية أو الإنجاز الإنساني يظل عرضة للاندثار، ما لم ننهض للدفاع عنه، والنضال من أجل إنقاذه من التدمير الذاتي في الطبيعة، وإبعاده عن الشراهة والكراهية ونزعات التسلط والعنف، وكل أنظمة الدمار الشامل الفيروسي.
بعد مرور نحو ستة أسابيع من العزلة، أشعر أحياناً أننا تكيَّفنا معها، وأن مجتمعنا اكتشف وسائل التأقلم اللازمة، وتغيرت بعض أنماط سلوكياتنا الاجتماعية اليومية، وبما يصون النفس والآخرين والمجتمع، ويرسخ قيم الإيثار، ويعزز الالتزام بالمعايير الأساسية للتباعد الجسدي والوقاية.
كما أشعر أنني، على مدى الأيام الماضية، لم أقدر على الفرار من المتابعة المسائية لآخر مذابح هذه الجائحة الشرسة الخفية، لقد سيطرت على كل شيء في هذا العالم. لقد نسينا الصراعات السياسية التي تجري في إقليم الشرق الأوسط، وفقدنا الاهتمام بصفقات غامضة، ومحاكمات ساسة عاثوا في الأرض فساداً، وحكومات هشة وأخرى مائعة، ونظم مصرفية
ومؤسسات شاخت، وأخرى انكشف ضعفها وعجزها..الخ.
نتفقد يومياً آخر أعداد ضحايا هذا القاتل الشرير، ونفرح لكل إعلان عن شفاء إنسان، نصفّق لكل المقاومين والصامدين، ونحيي الكمّامات والقفّازات، وأصحاب الأيادي البيضاء، والعاكفين، بإخلاص، على بحوثهم العلمية في مختبرات لحياة الإنسان.
نحزن أمام المشاهد البائسة لعمّال الرعاية الصحية الذين يفتقرون إلى أدوات الحماية الأساسية في بريطانيا ونيويورك ومدن جميلة رائعة في إسبانيا وإيطاليا، وأخرى مازالت مجهولة المصير في إفريقيا.
لم أقدر على إخفاء القلق، حينما هاتفني صديق ليخبرني أن صديقاً مشتركاً، قد أجرى عملية جراحية صعبة.. وكان وحيداً في مرضه. يضاعف مرض أي إنسان، قسوة العزلة، في زمن يعيش فيه العالم رهن الاعتقال.
في مساء مقمر قبيل حلول شهر رمضان المبارك، قررت الفرار من شاشة التلفزة، وإطفاء أضواء مكتبتي، وعزمت على الخروج من بوابة البيت، في محاولة للتريض، والهرب من الجبر إلى الاختيار. مشيت لبضع دقائق. كل شيء حولى غارق في الصمت، كل شيء تغير، الأضواء والأرصفة والشجيرات المتناثرة، فقفلت راجعاً إلى البيت، كم عدد الخطى التي مشيتها؟ لا أدري، لكن «المشوار» القصير كان ينزف توقاً إلى الأيام الغاربة.
تذكرت، وأنا أعبر بوابة البيت، قول الشاعر العربي عمرو بن الأهتم المنقري قبل خمسة عشر قرناً:
لَعَمركَ ما ضاقتْ بلادُ بأهلها
                ولكنّ أخلاقَ الرجالِ تضيقُ
وكنت أحياناً، أستبدل كلمة «أحلام» الرجال، بأخلاق الرجال.
عدت إلى شاشة التلفزة، أبحث عن الجديد في أخبار العالم، وأتبادل مع أصدقاء عبر الهاتف حكايات وطرائف ومواجع، ودعوات بالتواصي بالصبر وبلطف الله «الذي يهطل فجأة، فَيُربي من اليَبَسِ الفُتاتِ قلوباً»، ونحمده تعالى، ونتذكر مواجع عامل بسيط، وهو حبيس بيته، بلا عمل ولا مال، نتأمل بحزن أحوال ناس بسطاء بائسين جرّدهم وباء «كورونا» من أعمالهم، ينتظرون الفرح.
نتذكر نِعَمْ الله، التي تغمرنا، بشراً ووطناً آمناً، ويا سعد، من تشاغل بالآخرين، عطاءً ومواساة وخدمة وتعاضداً، وَلَسَوْفَ نَرضَى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"