كانت الرحلة في طلب الحديث قائمة في عهده صلى الله عليه وسلم، فكان بعض من يسمع بالرسالة الجديدة، يسافر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليسمع القرآن الكريم، ويتفهم تعاليم الإسلام، ثم ينصرف إلى قومه بعد أن يعلن إسلامه كما فعل ضمام بن ثعلبة. فالرحلة في عهد الرسول كانت عامة من أجل معرفة تعاليم الدين الجديد.
يشير الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين» إلى أنه في عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم تمّت رحلات كثيرة من العلماء في طلب الحديث خاصة، وكثيراً ما كانوا يقطعون المسافات الطويلة لسماع حديث أو التأكد من حديث وضبطه، أو للالتقاء بصحابي وملازمته، للأخذ عنه، لأن الصحابة في عهد التابعين توزعوا في البلدان ونقلوا في صدورهم الحديث النبوي، فكان لابد لمن أراد أن يجمع حديث محمد صلى الله عليه وسلم من أن ينتقل من بلد إلى آخر، وراء الصحابة الذين سمعوا منه ورأوه وأخذوا الأحكام عنه، ثم رحل أتباع التابعين إلى التابعين، ولازموهم وأخذوا عنهم، حتى تم جمع الحديث في مراجعه الكبرى، ومع هذا لم تنقطع رحلات العلماء في سبيل المذاكرة والعرض على الشيوخ المشهورين.
حديث «ستر المؤمن»
ومما يروى في رحلات الصحابة ما حدث به عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبقَ أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو أمير مصر خرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبقَ أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغير عقبة، فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة، فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبقَ أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر مؤمناً في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة». فقال له أبو أيوب: صدقت. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعاً إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر.
لقد خشي أبو أيوب أن يكون نسي شيئاً من حديث «ستر المؤمن»، فأحب أن يتأكد من ذلك، ويتثبت من صحة ما يحفظه عن الرسول الكريم، فرحل من الحجاز إلى مصر، يقطع الفيافي والقفار في سبيل ذلك!!
شهر على الطريق!
وعن ابن عقيل أن جابر بن عبد الله حدثه: أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: فابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم فخرج فاعتنقني. قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد (أو الناس) عراة غرلاً بهماً» قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد أحسبه قال: (كما يسمعه من قرب): أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة بهماً؟ قال: «بالحسنات والسيئات».
ويقول أبو عمر يوسف بن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله»: تنشط الرحلات في طلب الحديث بين التابعين وأتباعهم، حتى لقد كان أحدهم يخرج وما يخرجه إلا حديث عند صحابي يريد أن يسمعه منه لأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا يروي عن أبي العالية قوله: «كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، فلم نرضَ حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم».
من أجل حرف
وخرج الشعبي في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال لعلي: ألقى رجلاً لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: إن كنت لأسير ثلاثاً في الحديث الواحد. وأقام أبو قلابة بالمدينة وليس له بها حاجة إلا رجل عنده حديث واحد ليسمعه منه. ويروى أن «مسروقاً» رحل في حرف، ويظهر أن «مسروقاً» كان كثير الترحال، ولذلك قال عامر الشعبي: ما علمت أن أحداً من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق. ويروى عن الشعبي أنه حدث بحديث ثم قال لمن حدثه: (أعطيتكه بغير شيء، وإن كان الراكب ليركب إلى المدينة فيما دونه).
وكان الصحابة الكرام يشجعون على طلب العلم، وعلى الرحلة من أجله، من هذا ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «لو علمت أحداً أعلم بكتاب الله تعالى مني تبلغه الإبل لأتيته»، وكانوا يرحبون بطلاب العلم كما سبق أن ذكرنا، وكل هذا حبب إلى التابعين الرحلة، حتى إن عامراً الشعبي قال: «لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، ليسمع كلمة حكمة ما رأيت أن سفره ضاع»، وفعلاً كانوا يرحلون إلى الصحابة ولا يرون أن سفرهم قد ضاع.
من المدينة إلى دمشق
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل، فقال: يا أبا الدرداء أتيتك من المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا. قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء»، وعن فضل العالم على العابد، «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وعن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما جاء بك؟ قلت: أنبط العلم. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها، رضاً بما يصنع».