قطــع الفيـافـي والقفـار طلبـاً للحـديــث

وما ينطق عن الهوى
01:46 صباحا
قراءة 5 دقائق

‮كانت الرحلة في‮ ‬طلب الحديث قائمة في‮ ‬عهده صلى الله عليه وسلم، ‬فكان بعض من‮ ‬يسمع بالرسالة الجديدة، ‬يسافر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليسمع القرآن الكريم، ‬ويتفهم تعاليم الإسلام، ‬ثم‮ ‬ينصرف إلى قومه بعد أن‮ ‬يعلن إسلامه كما فعل ضمام بن ثعلبة‮. ‬فالرحلة في‮ ‬عهد الرسول كانت عامة من أجل معرفة تعاليم الدين الجديد‮.‬
‮‬يشير الدكتور محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتابه‮ «‬السنة قبل التدوين‮» ‬إلى أنه في‮ ‬عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم تمّت رحلات كثيرة من العلماء في‮ ‬طلب الحديث خاصة، ‬وكثيراً ما كانوا‮ ‬يقطعون المسافات الطويلة لسماع حديث أو التأكد من حديث وضبطه، ‬أو للالتقاء بصحابي‮ ‬وملازمته، ‬للأخذ عنه، ‬لأن الصحابة في‮ ‬عهد التابعين توزعوا في‮ ‬البلدان ونقلوا في‮ ‬صدورهم الحديث النبوي، ‬فكان لابد لمن أراد أن‮ ‬يجمع حديث محمد صلى ‬الله عليه وسلم من أن‮ ‬ينتقل من بلد إلى آخر، ‬وراء الصحابة الذين سمعوا منه ورأوه وأخذوا الأحكام عنه، ‬ثم رحل أتباع التابعين إلى التابعين، ‬ولازموهم وأخذوا عنهم، ‬حتى تم جمع الحديث في‮ ‬مراجعه الكبرى، ‬ومع هذا لم تنقطع رحلات العلماء في‮ ‬سبيل المذاكرة والعرض على الشيوخ المشهورين‮.‬


حديث «ستر المؤمن»


ومما‮ ‬يروى في‮ ‬رحلات الصحابة ما حدث به عطاء بن أبي‮ ‬رباح قال‮: ‬خرج أبو أيوب الأنصاري‮ ‬إلى عقبة بن عامر، ‬يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬ولم‮ ‬يبقَ أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬غيره وغير عقبة، ‬فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري‮ وهو أمير مصر‮ خرج إليه فعانقه، ‬ثم قال له‮: ‬ما جاء بك‮ ‬يا أبا أيوب؟ فقال‮: ‬حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬لم‮ ‬يبقَ أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬غيري‮ ‬وغير عقبة، ‬فابعث من‮ ‬يدلني‮ ‬على منزله، ‬قال‮: ‬فبعث معه من‮ ‬يدله على منزل عقبة، ‬فأخبر عقبة، ‬فعجل فخرج إليه فعانقه، ‬فقال‮: ‬ما جاء بك‮ ‬يا أبا أيوب؟ فقال‮: ‬حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم‮ ‬يبقَ أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬غيري‮ ‬وغيرك في‮ ‬ستر المؤمن، ‬قال عقبة‮: ‬نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول‮: «‬من ستر مؤمناً‮ ‬في‮ ‬الدنيا على خزية ستره الله‮ ‬يوم القيامة‮». ‬فقال له أبو أيوب‮: ‬صدقت‮. ‬ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، ‬فركبها راجعاً‮ ‬إلى المدينة، ‬فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر‮.‬
‮‬لقد خشي‮ ‬أبو أيوب أن‮ ‬يكون نسي‮ ‬شيئاً‮ ‬من حديث‮ «‬ستر المؤمن‮»‬، ‬فأحب أن‮ ‬يتأكد من ذلك، ‬ويتثبت من صحة ما‮ ‬يحفظه عن الرسول الكريم، ‬فرحل من الحجاز إلى مصر، ‬يقطع الفيافي‮ ‬والقفار في‮ ‬سبيل ذلك‮!!‬


شهر على الطريق!


‮‬وعن ابن عقيل أن جابر بن عبد الله حدثه‮: ‬أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم قال‮: ‬فابتعت بعيراً، ‬فشددت إليه رحلي‮ ‬شهراً‮ ‬حتى قدمت الشام، ‬فإذا عبد الله بن أنيس، ‬فبعثت إليه أن جابراً‮ ‬بالباب، ‬فرجع الرسول فقال‮: ‬جابر بن عبد الله؟ فقلت‮: ‬نعم فخرج فاعتنقني‮. ‬قلت‮: ‬حديث بلغني‮ ‬لم أسمعه، ‬خشيت أن أموت أو تموت، ‬قال‮: ‬سمعت النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول‮: «‬يحشر الله العباد‮ ‬ (أو الناس) عراة‮ ‬غرلاً بهما‮ً» ‬قلنا‮: ‬ما بهماً؟ قال‮: ‬ليس معهم شيء، ‬فيناديهم بصوت‮ ‬يسمعه من بعد‮ ‬ أحسبه قال‮: (كما‮ ‬يسمعه من قرب‮): ‬أنا الملك، ‬لا‮ ‬ينبغي‮ ‬لأحد من أهل الجنة‮ ‬يدخل الجنة وأحد من أهل النار‮ ‬يطلبه بمظلمة، ‬ولا‮ ‬ينبغي‮ ‬لأحد من أهل النار‮ ‬يدخل النار، ‬وأحد من أهل الجنة‮ ‬يطلبه بمظلمة، ‬قلت‮: ‬وكيف؟ وإنما نأتي‮ ‬الله عراة بهماً؟ قال‮: «‬بالحسنات والسيئات‮».‬
‮ويقول أبو ‬عمر‮ ‬يوسف بن عبد البر في‮ ‬كتاب‮ «‬جامع بيان العلم وفضله‮»: ‬تنشط الرحلات في‮ ‬طلب الحديث بين التابعين وأتباعهم، ‬حتى لقد كان أحدهم‮ ‬يخرج وما‮ ‬يخرجه إلا حديث عند صحابي‮ ‬يريد أن‮ ‬يسمعه منه لأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬وفي‮ ‬هذا‮ ‬يروي‮ ‬عن أبي‮ ‬العالية قوله‮: «‬كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، ‬فلم نرضَ حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم‮».‬


من أجل حرف


‮وخرج الشعبي‮ ‬في‮ ‬ثلاثة أحاديث ذكرت له، ‬فقال لعلي‮: ‬ألقى رجلاً لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬وروى الزهري‮ ‬عن سعيد بن المسيب قال‮: ‬إن كنت لأسير ثلاثاً‮ ‬في‮ ‬الحديث الواحد‮. ‬وأقام أبو قلابة بالمدينة وليس له بها حاجة إلا رجل عنده حديث واحد ليسمعه منه‮. ‬ويروى ‬أن‮ «‬مسروقا‮ً» ‬رحل في‮ ‬حرف، ‬ويظهر أن‮ «‬مسروقاً‮» ‬كان كثير الترحال، ‬ولذلك قال عامر الشعبي‮: ‬ما علمت أن أحداً‮ ‬من الناس كان أطلب لعلم في‮ ‬أفق من الآفاق من مسروق‮. ‬ويروى ‬عن الشعبي‮ ‬أنه حدث بحديث ثم قال لمن حدثه‮: (‬أعطيتكه بغير شيء، ‬وإن كان الراكب ليركب إلى المدينة فيما دونه‮).‬
‮‬وكان الصحابة الكرام‮ ‬يشجعون على طلب العلم، ‬وعلى الرحلة من أجله، ‬من هذا ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال‮: «‬لو علمت أحداً‮ ‬أعلم بكتاب الله تعالى مني‮ ‬تبلغه الإبل لأتيته‮»، ‬وكانوا‮ ‬يرحبون بطلاب العلم كما سبق أن ذكرنا، ‬وكل هذا حبب إلى التابعين الرحلة، ‬حتى إن عامراً‮ ‬الشعبي‮ ‬قال‮: «‬لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، ‬ليسمع كلمة حكمة ما رأيت أن سفره ضاع‮»‬، ‬وفعلاً كانوا‮ ‬يرحلون إلى الصحابة ولا‮ ‬يرون أن سفرهم قد ضاع‮.‬


من المدينة إلى دمشق


‮وعن كثير بن قيس قال‮: ‬كنت جالساً‮ ‬عند أبي‮ ‬الدرداء في‮ ‬مسجد دمشق، ‬فأتاه رجل، ‬فقال‮: ‬يا أبا الدرداء ‬أتيتك من المدينة، ‬مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني‮ ‬أنك تحدث به عن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم، قال‮: ‬فما جاء بك تجارة؟ قال‮: ‬لا‮. ‬قال‮: ‬ولا جاء بك‮ ‬غيره؟ قال‮: ‬لا، ‬قال‮: ‬فإني‮ ‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول‮: «‬من سلك طريقاً‮ ‬يلتمس فيه علماً‮ ‬سهل الله له طريقًا إلى الجنة، ‬وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، ‬وإن طالب العلم‮ ‬يستغفر له من في‮ ‬السماء والأرض، ‬حتى الحيتان في‮ ‬الماء»، ‬وعن فضل العالم على العابد، «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم‮ ‬يورثوا ديناراً‮ ‬ولا درهما، ‬إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر‮».‬
‮وعن زر بن حبيش، ‬قال‮: ‬أتيت صفوان بن عسال المرادي، ‬فقال‮: ‬ما جاء بك؟ قلت‮: ‬أنبط العلم‮. ‬قال‮: ‬فإني‮ ‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول‮: «‬ما من خارج خرج من بيته في‮ ‬طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها، ‬رضاً بما‮ ‬يصنع‮».‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"