ابن دقيق العيد.. مجدد القرن السابع الهجري

قامات إسلامية
03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
بقلم: محمد حماد

الإمام الفقيه المجتهد الحافظ العلامة قاضي‮ ‬القضاة،‮ ‬شيخ الإسلام ابن دقيق العيد،‮ ‬كانت له لفتات ولوامع حسبما ورد في‮ ‬موسوعة المجددين في‮ ‬الفكر الإسلامي‮ ‬تضعه على رأس أصحاب النزعات التجديدية في‮ ‬التفكير الإسلامي،‮ ‬حتى إن عدداً من المؤرخين اختاروه واحداً من مجددي‮ ‬القرن السابع الهجري‮.‬
قال عنه الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري‮: «‬لم أرَ‮ ‬مثله فيمن رأيت،‮ ‮وكان للعلوم جامعاً،‮ ‬وفي‮ ‬فنونها بارعاً،‮ ‬مقدَما في‮ ‬معرفة علل الحديث على أقرانه،‮ ‬منفرداً بهذا الفن النفيس في‮ ‬زمانه،‮ ‬بصيراً بذلك،‮ ‬شديد النظر في‮ ‬تلك المسالك،‮ ‬وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني‮ ‬من السنة والكتاب،‮ ‬مبرزاً في‮ ‬العلوم النقليَة والعقلية‮».‬
وعده الإمام شمس الدين الذهبي‮ ‬مجدد الإسلام على رأس المئة السابعة للهجرة.‬
وفي‮ ‬كتابه‮ «‬المجددون في‮ ‬الإسلام‮»،‮ ‬وضع الدكتور عبد المتعال الصعيدي‮ ‬ابن دقيق العيد على رأس المجددين في‮ ‬الإسلام في‮ ‬القرن السابع الهجري،‮ فقال: «‬ولابن دقيق العيد لفتة عابرة قد تدل على أنه كان فيه شيء من نزعة التجديد،‮ ‬وذلك أنه لما جاءت التتار إلى الشام في‮ ‬سنة‮ 086 ه الموافق‮ ‬1821 م،‮ ‬ورد مرسوم السلطان إلى القاهرة بعد خروجه منها للقائهم أن‮ ‬يجتمع العلماء ويقرأوا‮ «‬صحيح البخاري‮»‬،‮ ‬فاجتمع العلماء وقرأوه إلى أن بقي‮ ‬شيء منه،‮ ‬وكان هذا في‮ ‬يوم خميس،‮ ‬فأخروا ما بقي‮ ‬إلى أن‮ ‬يتموه‮ ‬يوم الجمعة،‮ ‬فلما كان‮ ‬يوم الجمعة رأوا ابن دقيق العيد في‮ ‬الجامع،‮ ‬فقال لهم‮: ‬ما فعلتم ببخاريكم؟،‮ ‬فقالوا‮: ‬بقي‮ ‬ميعاد أخرناه لنختمه اليوم،‮ ‬فقال‮: ‬انفصل الحال من أمس العصر،‮ ‬وبات المسلمون على كذا،‮ ‬فقالوا‮: ‬نخبر عنك،‮ ‬فقال‮: ‬نعم،‮ ‬فجاء الخبر بعد ذلك،‮ ‬وكان النصر فيه للمسلمين،‮ ‬وقد عد السبكي‮ ‬هذا من كرامات ابن دقيق العيد‮».‬
والحق أن قول ابن دقيق العيد‮: «‬ماذا فعل بخاريكم؟،‮ ‬يريد منه أن النصر قد تم بما أمر الله بإعداده من قوة ومن رباط الخيل،‮ ‬وليس بقراءة البخاري‮ ‬ونحوه،‮ ‬على عكس ما فهم الإمام السبكي؛ لأن المسلمين تركوا الاعتماد على العلوم التي‮ ‬تمكنهم من إعداد ما أمرهم الله به من القوة الحربيَة‮».‬


دعاء مستجاب


هو الإمام محمد بن علي‮ ‬بن وهب بن مطيع بن أبي‮ ‬الطاعة القشيري‮ ‬القوصي،‮ ‬أبو الفتح تقي‮ ‬الدين،‮ ‬ابن دقيق العيد،‮ ‬ولد‮ ‬يوم السبت‮ ‬15 شعبان سنة خمس وعشرين وستمئة،‮ ‬في‮ ‬البحر الأحمر عند ساحل‮ ‬ينبع؛‮ ‬حيث كان والده مجد الدين القشيري‮ ‬القوصي‮ ‬متوجهاً إلى الحج‮.‮ ‬ويقال إن والده لما قدم مكة حمل رضيعه بين‮ ‬يديه وطاف به البيت وهو‮ ‬يدعو الله سائلاً أن‮ ‬يجعله عالماً،‮ ‬وقد استجاب الله دعاءه‮.‬
غلب عليه لقب ابن دقيق العيد،‮ ‬وهو لقب جده الأعلى الذي‮ ‬كان ذا صيت ذائع،‮ ‬ومكانة رفيعة بين أهل الصعيد،‮ ‬وقد لقب بذلك؛ لأن هذا الجد كان‮ ‬يضع على رأسه‮ ‬يوم العيد طيلساناً شديد البياض،‮ ‬فشبَهه العامة من أبناء الصعيد لبياضه الشديد هذا‮ «‬بدقيق العيد‮».‬
نشأ ابن دقيق العيد في‮ ‬مدينة قوص التي‮ ‬كانت تشتهر في‮ ‬ذلك الوقت بمدارسها العديدة ونهضتها الثقافية الواسعة،‮ ‬تحت رعاية والده مجد الدين القشيري،‮ ‬الذي‮ ‬تخرج على‮ ‬يديه الآلاف من أبناء الصعيد،‮ ‬كما‮ ‬يشير إلى ذلك الأدفوي‮ ‬في‮ «‬طالعه السعيد‮» ‬في‮ ‬تراجم متفرقة‮.‬


إشعاع القاهرة


وقد عاش شبابه تقياً نقياً ورعاً طاهر الظاهر والباطن،‮ وذكر كثيرون في‮ ‬ترجمته أن ابن دقيق العيد حفظ القرآن الكريم حفظاً تاماً،‮ ‬وتفقه على مذهب الإمام مالك على‮ ‬يد أبيه،‮ ‬ثم رجع وتفقه على مذهب الإمام الشافعي‮ ‬على‮ ‬يد تلميذ أبيه البهاء القفطي،‮ ‬كما درس النحو وعلوم اللغة على‮ ‬يد الشيخ محمد أبي‮ ‬الفضل المرسي،‮ ‬وشمس الدين محمود الأصفهاني،‮ ‬ثم ارتحل إلى القاهرة التي‮ ‬كانت في‮ ‬ذلك الوقت مركز إشعاع فكري‮ ‬وثقافي‮ ‬يفوق كل وصف،،‮ ‬فانتهز ابن دقيق العيد هذه النهضة العلمية الواسعة‮.‬
لازم ابن دقيق العيد سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام حتى وفاته،‮ ‬وأخذ على‮ ‬يديه الأصول وفقه الإمام الشافعي،‮ ‬وهو من سماه بسلطان العلماء،‮ ‬وجلس إلى الحافظ عبد العظيم المنذري،‮ ‬وإلى عبد الرحمن البغدادي‮ ‬البقال،‮ ‬ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق وسمع بها من الشيخ أحمد عبد الدايم وغيره،‮ ‬ثم اتجه إلى الحجاز ومنه إلى الإسكندرية فحضر مجالس الشيوخ فيهما،‮ ‬وتفقه،‮ ‬وبلغ‮ ‬غايته في‮ ‬شتى أنواع العلوم والمعرفة الإسلامية‮.‬


قاضي القضاة


بعد أن حصل ابن دقيق العيد كل هذا العلم لم‮ ‬يمكث بالقاهرة طويلاً،‮ ‬حتى عاد من جديد،‮ ‬إلى مسقط رأسه قوص،‮ ‬وتقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية،‮ ‬وهي‮ ‬إحدى المدارس الشهيرة في‮ ‬قوص،‮ ‬وهو لم‮ ‬يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره،‮ ‬فالتف حوله المريدون‮ ينهلون منه ‮ ‬مختلف الفنون والمعارف الإسلامية‮.‬
وقد عرف بغزارة علمه وسعة أفقه،‮ ‬فذاع صيته بين الناس،‮ ‬حتى إن والي‮ ‬قوص أسند إليه منصب القضاء على مذهب الإمام مالك،‮ ‬ثم اتجه بعد ذلك إلى القاهرة،‮ ‬وقام فيها بالتدريس بالمدرسة الفاضلية،‮ ‬والكاملية،‮ ‬والصالحية،‮ ‬والناصرية،‮ ‬وكان ثقة في‮ ‬كل ما‮ ‬يقول أو‮ ‬يشرح حتى بلغ‮ ‬في‮ ‬النفوس مكانة سامية وطارت سيرته الحسنة،‮ ‬إلى القاهرة مجدداً ليرشحه أحد المقربين إلى السلطان منصور بن لاجين ليتولى منصب قاضي‮ ‬القضاة في‮ ‬مصر،‮ ‬حينما توفي‮ ‬عبد الرحمن بن بنت الأعز ‬وخلا بموته هذا المنصب،‮ ‬قائلاً‮: «‬هل أدلك على محمد بن إدريس الشافعي،‮ ‬وسفيان الثوري‮ ‬وإبراهيم بن أدهم؟ ‬فعليك بابن دقيق العيد‮».‬


‮ميراث عظيم


ترك ابن دقيق العيد الكثير من المؤلفات في‮ ‬الفقه والحديث ولعل أشهرها‮: «‬الإلمام الجامع أحاديث الأحكام‮»،‮ ‬في‮ ‬عشرين مجلداً،‮ ‬وهو من أعظم ما صنف في‮ ‬مجاله،‮ ‬وشرح لكتاب التبريزي‮ ‬في‮ ‬الفقه،‮ ‬وفقه التبريزي‮ ‬في‮ ‬أصوله،‮ ‬كما شرح مختصر ابن الحاجب في‮ ‬الفقه،‮ ‬ووضع في‮ ‬علوم الحديث كتاب الاقتراح في‮ ‬معرفة الاصطلاح،‮ ‬وله تصانيف في‮ ‬أصول الدين،‮ ‬كما كان ابن دقيق العيد،‮ ‬بجانب امتيازه في‮ ‬التدريس والفقه والتأليف،‮ ‬خطيباً بارعاً،‮ ‬وله ديوان شعر ونثر‮.‬
توفي‮ ‬بالقاهرة في‮ ‬صبيحة‮ ‬يوم الجمعة لتسعة أيام بقيت من صفر ‮ ‬702ه،‮ ‬بعد أن عمر‮ ‬77 عاماً،‮ ‬قضاها في‮ ‬خدمة الدين الإسلامي‮ ‬الحنيف في‮ ‬مختلف أنحاء العالم الإسلامي‮. ودفن‮ ‬يوم السبت بسفح المقطم،‮ ‬وكان‮ ‬يوماً مشهوداً،‮ ‬وقد وقف جيش مصر‮ ‬ينتظر الصلاة عليه‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"