رحلة أبي الطيب في رمضان

02:25 صباحا
قراءة 3 دقائق
بقلم:عبدالغفار حسين

نحن الآن في رمضان عام 354 ه، الموافق لشهر أغسطس من عام 965م. وتَتَرَاءى لنا قافلة من الخيول والبغال يقودها ثلاثة أشخاص يتقدمهم فارس مَهيب الطلعة وسيم قسمات المحيّا، خطّه شيب مبكر يندسّ هنا وهناك بين شعيرات لحيته وشاربه الخفيفين. ومن خلفه شاب رقيق الملامح في العشرينات من عمره، ويلحق بهما ثلاثة من الغلمان يمتطون مهوراً رشيقة، وخلف المهور عدد من البِغال تحمل على ظهورها السروج الكبيرة المحاكة من خيوط السجاد العَجمي ذي الزخارف الجميلة التي اشتهرت بها بلاد فارس.
وهذه السروج مملوءة بالنفائس والنعم من الأموال والهدايا التي حصل عليها صاحب القافلة وقائدها من أمير فارس في شيراز السلطان عضد الدولة البويهي، أبو شجاع فنا خسرو، الذي سماه أبو الطيب بالشهنشاه، أي ملك الملوك، وهو لقب يطلقه العجم على ملوكهم.
أَبا شُجاعٍ بِفارِسٍ عَضُدَ الدَولَةِ
                      فَنّاخُسرو شَهَنشاها
أَسامِياً لَم تَزِدهُ مَعرِفَةً
                      وَإِنَّما لَذَّةً ذَكَرناها
هذه القافلة التي دخلت لتوها دير العاقول، القريب من ضواحي بغداد، هي قافلة أكبر الشعراء والأدباء صيتاً لدى العرب، مالئ الدُنيا وشاغل الناس الذي يشكل عصراً كاملاً في رجلٍ واحد، وهو بكر الزمان، وفارس الكَرّ والفَرّ والكلمة الصائبة، هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي، الملقب بالمتنبي الذي ولد ببغداد عام 915 م، واغتيل عام 965م عن عُمر يُناهز خمسين عاماً، وجاء فقده في تلك السن المبكرة ليُشكل خسارة عظيمة للأدب الإنساني عامة والأدب العربي خاصة.
ولم يتعد الطبسي الواقع، عندما رثاه بهذه الكلمة الرائعة:
ما رأى الناس ثاني المتنبي...
                    أي ثانٍ يرى لبكر الزمان!
وكان أبو الطيب، هذه الشخصية الفَذّة، شجاعاً مِقداماً، لا يُنافق ولا يُداهن، يمدح إذا رأى أمراً يستحق المدح ويقدح إذا اعتقد باستحقاق القدح، عرض عليه عضد الدولة أن يُرسل جنوداً يحرسون قافلته المتجهة من شيراز إلى بغداد، لكن أبا الطيب أَبَى اصطحاب أحد غير غُلمانه. وعندما داهمهُ اللصوص في المكان الذي قُتل فيه في ضواحي بغداد، وأرادوا أن يُستولوا على ممتلكاته، لم يرضخ أبو الطيب لمطالبهم، بالرغم من أنهم كانوا كثيري العدد وهو في نفرٍ قليلٍ فانبرى للمقاومة والتصدي للعدوان، وقتل أبو الطيب وابنه مُحَسَّد وأحد الغلمان.
وحدثت بقتل هذا الصنديد ثلمة في الثقافة العربية والفكر العربي والأدب العربي، لم يستطع أحد أن يملأها ملئاً جديراً بالمقارنة طوال ألف ونيف من السنين التي مضت. وما زال المتنبي بعد هذه القرون الطويلة يقف شامخاً، ونتذكرهُ كلما أردنا أن نحتكم إلى الشعر وما فيه من الأمثال والحكم والعبر. ولعل أبا الطيب استشرف ما نشعره تجاهه، وما نكون عليه من ترداد لسيرتهِ بعد هذه السنين الطوال بقوله يخاطب سيف الدولة الحمداني:
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي
                    إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّراً
                         وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنّمَا...
                       بشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَّدَا
وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني...
                  أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى
وقد كَتبت هذه الحلقة لكي أُشير إلى أن واقعة اغتيال المتنبي حدثت في رمضان، وكنت كَتبت في جريدة «الخليج» في رمضان عام 2003 ثلاثين حلقة عن أبي الطيب، وأعتقد أنني أول إماراتي يكتُب بتوسع كهذا عن المتنبي في ذلك الوقت، وأرجو أن تتاح لي فرصة لكي أجمعها في كتاب.
وليس أبو الطيب في حاجة إلى أن يكتُب عنه أكثر مما كَتبهُ الباحثون، الذين قيل إن عددهم يربو على ألفين من الكُتَّاب والأدباء والمؤرخين منذ ما يربو على ألف ومئتي عام، ولكن أحاول أن أَدْلَى بدَلْو من النُطقِ الحَسَن، لعل ذلك يُعجب هذا الشاعر الفَحل، ويرضيهِ، وهو نفسهُ القائل:
لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ
                    فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"