تجاوب الصحابة مع معلم الإنسانية الأول

وما ينطق عن الهوى
03:10 صباحا
قراءة 5 دقائق

بعد أن خالط الإيمان قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنار سبيلهم‮ ‬وعرفوا عظمة الإسلام، ‬انكبوا‮ ‬ينهلون من القرآن الكريم‮: ‬ذلك المعين الذي‮ ‬لا‮ ‬ينضب بعد أن رأوا فيه المعجزة الكبرى والهداية العظمى وامتلأت قلوبهم حباً لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ‬فتفانوا في‮ ‬الدفاع عن مبادئهم وحماية قائدهم ومعلمهم، ‬حتى إن الرجل منهم ليفديه بماله ودمه وولده، ‮وتحولت جميع قواهم الفطرية، ‬وفضائلهم الطبيعية، ‮إلى توطيد دعائم الدين وتحصيل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة‮.‬
‮يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتابه‮ «‬السنة قبل التدوين‮»: كان الصحابة ‬يتعلمون من النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم آيات معدودات إلى جانب الأحاديث النبوية‮: ‬يتفهمون معناها، ‬ويتعلمون فقهها، ‬ويطبقونها على أنفسهم، ‬ثم‮ ‬يحفظون‮ ‬غيرها، ‬وفي‮ ‬ذلك‮ ‬يقول أبو عبد الرحمن السلمي‮: «‬حدثنا الذين كانوا‮ ‬يقرئوننا القرآن‮: ‬كعثمان بن عفان، ‬وعبد الله بن مسعود، ‬وغيرهما‮ ‬ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم عشر آيات، ‬لم‮ ‬يتجاوزوها حتى‮ ‬يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، ‬قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً‮».‬


مجالس الإيمان


‮ ‬وكان بعض الصحابة‮ ‬يقيم عند الرسول صلى الله عليه وسلم‮ ‬يتعلم أحكام الإسلام وعباداته، ‬ثم‮ ‬يعود إلى أهله وقومه‮ ‬يعلمهم ويفقههم، ‬ومن هذا ما أخرجه البخاري‮ ‬عن مالك بن الحويرث قال‮: ‬أتينا النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، ‬فأقمنا عنده عشرين ليلة، ‬فظن أنا اشتقنا أهلنا، ‬وسألنا عمن تركنا في‮ ‬أهلنا، ‬فأخبرناه، ‬وكان رفيقاً رحيماً، ‬فقال‮: «ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، ‬وصلوا كما رأيتموني‮ ‬أصلي، ‬وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ‬ثم ليؤمكم أكبركم».‬
‮ ‬وكان الصحابة‮ ‬يحرصون على حضور مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصاً شديداً، ‬إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعيشية من الرعاية والتجارة وغيرهما، ‬وقد‮ ‬يعسر على بعضهم الحضور، ‬فيتناوبون مجالسه عليه الصلاة والسلام، ‬كما كان‮ ‬يفعل عمر رضي‮ ‬الله عنه، ‬قال‮: «كنت أنا وجار لي‮ ‬من الأنصار في‮ ‬بني‮ ‬أمية بن زيد، ‬وهي‮ ‬من عوالي‮ ‬المدينة، نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬فينزل‮ ‬يوماً، ‬وأنزل‮ ‬يوماً، ‬فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي‮ ‬وغيره‮. ‬وإذا نزل فعل مثل ذلك».‬


«لا ندري ما الكذب»


‮ويقول البراء بن عازب الأوسي‮ ‬رضي‮ ‬الله عنه‮: «ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬كان‮ ‬يحدثنا أصحابنا، ‬وكنا مشتغلين في‮ ‬رعاية الإبل، ‬وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬كانوا‮ ‬يطلبون ما‮ ‬يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬فيسمعونه من أقرانهم، ‬وممن هو أحفظ منهم، ‬وكانوا‮ ‬يشددون على من‮ ‬يسمعون منه‮» ‬وفي‮ ‬رواية عنه‮: «‬ليس كلنا كان‮ ‬يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬كانت لنا ضيعة وأشغال ولكن الناس لم‮ ‬يكونوا‮ ‬يكذبون‮ ‬يومئذٍ، ‬فيحدث الشاهد الغائب».‬
‮‬وعن أنس بن مالك رضي‮ ‬الله عنه‮: «.. ‬ليس كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه‮ (‬منه‮) ‬ولكن كان‮ ‬يحدث بعضنا بعضاً‮ ‬ولا‮ ‬يتهم بعضنا بعضاً». ‬وفي‮ ‬رواية عن قتادة أن أنساً حدث بحديث فقال له رجل‮: ‬أسمعت هذا من رسول الله؟ قال‮: ‬نعم‮. ‬أو حدثني‮ ‬من لم‮ ‬يكذب والله ما كنا نكذب ولا كنا ندري‮ ‬ما الكذب‮.‬
‮ ‬وكان الصحابة‮ ‬يتذاكرون دائماً‮ ‬ما‮ ‬يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬قال أنس بن مالك‮: ‬«كنا نكون عند النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، ‬فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه‮».‬


مشاهد نبوية


‮ ‬وإلى جانب هذه المجالس، ‬كان الصحابة‮ ‬يتلقون السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه‮ ‬يمكن حصرها فيما‮ ‬يأتي‮: ‬حوادث كانت تقع للرسول نفسه، ‬فيبين حكمها، ‬وينتشر هذا الحكم بين المسلمين.‬
‮‬مثال ذلك ما رواه أبو هريرة رضي‮ ‬الله عنه‮: ‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‬مر برجل‮ ‬يبيع طعاماً‮ ‬فسأله كيف تبيع؟ فأخبره، ‬فأوحي إليه أدخل‮ ‬يدك فيه، ‬فأدخل‮ ‬يده، ‬فإذا هو مبلول، ‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‮: «ليس منا من‮ ‬غش».‬
‮ ‬وقد‮ ‬يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو‮ ‬يسمع صحابياً‮ ‬يخطئ، ‬فيصحح له خطأه، ‬ويرشده، ‬من ذلك ما رواه عمر بن الخطاب رضي‮ ‬الله عنه أنه رأى رجلاً توضأ للصلاة، ‬فترك موضع ظفر على ظهر قدمه، ‬فأبصره النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم فقال‮: «‬ارجع فأحسن وضوءك» ‬فرجع فتوضأ ثم صلى‮.‬
‮ ‬ومن ذلك ما رواه عمر بن الخطاب رضي‮ ‬الله عنه قال‮: ‬«لما كان‮ ‬يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم، ‬فقالوا‮: ‬فلان شهيد، ‬فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا‮: ‬فلان شهيد، ‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‮: ‬كلا، ‬إني‮ ‬رأيته في‮ ‬النار في‮ ‬بردة‮ ‬غلها أو عباءة، ‬ثم قال صلى الله عليه وسلم‮: ‬يا ابن الخطاب‮: ‬اذهب فناد في‮ ‬الناس أنه لا‮ ‬يدخل الجنة إلا المؤمنون‮. ‬قال‮: ‬فخرجت فناديت‮: ‬ألا إنه لا‮ ‬يدخل الجنة إلا المؤمنون‮».‬


عوامل حفظ السنة


‮ ‬ويذكر الأمام الحافظ جلال الدين السيوطي‮ ‬في‮ ‬كتاب‮ «‬مفتاح الجنة في‮ ‬الاحتجاج بالسنة‮» ‬، ‬أن هناك ثلاثة عوامل أساسية تضامنت وتضافرت في‮ ‬سبيل حفظ السنة المشرفة في‮ ‬عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ‬وهذه العوامل هي‮: ‬شخصية الرسول من حيث هو مرب ومعلم، ‬وفوق هذا، ‬وأكثر من هذا من حيث هو رسول رب العالمين، ‬والسنة من حيث مادتها، ‬والصحابة وهم الطلاب الذين تلقوا السنة وشاركوا في‮ ‬تطبيقها، ‬وتجاوبوا مع المعلم الأول والمادة مخلصين، ‬بقلوب‮ ‬عظيمة انطوت على رغبة ملحة، ‬وإرادة قوية في‮ ‬اتباع ما به‮ ‬يتم إيمانهم، ‬ويقطع صلتهم بما كانوا فيه من ضلال‮. ‬كل ذلك كان له الأثر الكبير في‮ ‬حفظ الصحابة للسنة دقيقها وجليلها، ‬ثم نقلها إلى التابعين الذين نقلوها إلى من بعدهم طبقاً‮ ‬لما قاله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‮: «‬تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن‮ ‬يسمع منكم‮».‬
‬ويمكننا أن نقول‮ ‬بكل ثقة: ‬إن السنة في‮ ‬عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت محفوظة عند الصحابة جنباً‮ ‬إلى جنب مع القرآن الكريم، ‬وإن كان نصيب كل صحابي‮ ‬منها‮ ‬يختلف عن نصيب الآخر، ‬فمنهم المكثر من حفظها، ‬ومنهم المقل، ‬ومنهم المتوسط في‮ ‬ذلك‮. ‬ومن ثم نستطيع تأكيد أنهم قد أحاطوا بالسنة، ‬وتكفلوا بنقلها إلى التابعين‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"