«و يؤثرون على أنفسهم»

02:06 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. رشاد سالم *

الإيثار هو تقديم الإنسان أخاه على نفسه في أمر هو بحاجه إليه، وهو مرتبة راقية جداً من مراتب خلق العطاء. والإيثار المثالي هو الذي نجده عند المؤمنين الصادقين، الذين يعاملون الله تعالى، ويبتغون رضوانه، ويرجون الأجر عنده، فهؤلاء هم الذين تتسع دائرة الإيثار عندهم، فحيثما وجدوا مرضاة الله في إيثار غيرهم على أنفسهم توقد في قلوبهم الإيمان، فآثروا على أنفسهم ابتغاء مرضاة الرحمن، ولو كان بهم خصاصة، أي ضرورة أو حاجة، وقدموا مصالح أنفسهم الدنيوية ضحايا وقرابين لتذبح على مذابح ابتغاء الخير والفضيلة، جوداً بها، وعطاء غير محدود. وقد يبلغ بهم جود الإيثار أن يقدموا أرواحهم وحياتهم ضحايا فداء لغيرهم، لكن ابتغاء مرضاة الله، وإليك أمثلة من هذا الإيثار الأسمى:
* سجل الله للأنصار فضيلة إيثارهم إخوانهم المهاجرين بكثير مما لهم به ضرورة أو حاجة فهم الرواد الأوائل للإيثار بعد الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم؛ إذ نزل فيهم قرآن يتلى، يشيد بإيثارهم الفريد على وجه الزمان، الذي جعلهم منارة خالدة للأجيال الإنسانية، فعلمها كيف يكون الجود؟ وكيف يكون الإيثار؟ وذلك حين استقبلوا إخوانهم المهاجرين الذين لا يملكون شيئاً فأعطوهم كل شيء، وفي ثناء الله عليهم نحرص على الاقتداء بهم،
«لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». (الحشر: ٨، ٩)
في الآيتين الكريمتين يبيّن الله تعالى فضل المهاجرين والأنصار، أما المهاجرون فقد ضحوا بأموالهم ومساكنهم وخرجوا مهاجرين من مكة يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله.
وأما الأنصار فقد استقبلوهم بالإكرام، وآثروهم على أنفسهم بكثير مما بهم، حتى كان منهم من آثر أخاه من المهاجرين على نفسه، مع أن به خصاصة لما آثر به.
وقد بلغ من إيثارهم أن يكون للأنصاري زوجتان أو أكثر، فيقول لأخيه من المهاجرين: اختر ما تشاء منهن حتى أطلقها من أجلك لتتزوجها إذا انقضت عدتها.
وفي غزوة بني النضير، لم يجد الأنصار في أنفسهم غضاضة أن يوزع الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيئاً على فقراء المهاجرين، عفة منهم وإيثاراً، وشعورا منهم بحق المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فأصابهم الفقر بسبب الهجرة.
ومن لطائف قصص الإيثار ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، أي فقير جائع، فأرسل الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله. وفي رواية: قال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوميهم وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف، وباتا طاوين من غير عشاء. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة.
هذه التربية الإسلامية هي التي جعلت أبا بكر، رضي الله عنه، يقدم كل ماله في موسم من مواسم البذل والعطاء ولما سأله الرسول، صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
وهي التي جعلت عمر بن الخطاب يقدم نصف ماله في سبيل الله، وهي التي جعلت عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة، وهي التي علمت الأشعريين أن يشتركوا فيما عندهم من طعام إذا قل طعام عيالهم.
قال: صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم».
إن المسلم الذي ارتوى من هدي الإسلام الحنيف يؤثر على نفسه، ولو كان مقلاً لا يملك المال الوفير، ذلك أن الإيثار خلق نبيل أشاد به الإسلام ورغب في التخلق به، ليكون سمة يتميز بها المسلم الصادق النبيل.
وكانت حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، حافلة بالإيثار، وبذلك أصله في نفوس المسلمين الأوائل وركزه في طباعهم وعاداتهم، فعن سهل بن سعد، رضي الله عنه، أن امرأة جاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوك بها، فأخذها النبي، صلى الله عليه وسلم، محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال فلان: ألبسنيها ما أحسنها !فقال: نعم. فجلس النبي، صلى الله عليه وسلم، في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل به إليه، فقال له القوم: ما أحسنت! لبسها النبي، صلى الله عليه وسلم، محتاجاً إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري.
وكان، صلى الله عليه وسلم، تطيب نفسه، وتقر عينه؛ إذ يرى غرسه في الإيثار تؤتي أكلها في حياة المسلمين، إذا ما دعا إليه داع من جدب أو إقلال.
ما أجمل الإيثار الذي عرفته الإنسانية عن الأنصار، وعرفته أيضاً عن الأشعريين وأمثالهم من أجيال الإسلام. وما أعظم فضل الرسول الكريم الذي غرس بذوره في نفوس الجيل الأول من المسلمين والمسلمات، وتوارثته عنهم الأجيال المسلمة، حتى أصبح خلقاً أصيلاً من أخلاق المجتمع الإسلامي.
«فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى». (الليل، ٥ - ١٠). إن السخاء سماحة وخلق عال رفيع وهو من أخلاق الكرام وفوق ذلك فإن ما ينفقه الإنسان سيرده الله عليه مع الأجر الكبير.
«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ». (سبأ، ٣٩).
والسخاء يكثر الأصدقاء ويسكت الأعداء ويجلب الثواب من الله.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار» رواه الترمذي.

* مدير الجامعة القاسمية بالشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"