حقائق كونية (2)

القسم الإلهي
04:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.

يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.

يذكر ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»:إقسامه سبحانه ب «والليل إذ أدبر» فلما في إدباره وإقبال النهار من أبين الدلالات الظاهرة على المبدأ والمعاد، فإنه مبدأ ومعاد يومي مشهود بالعيان، بينما الحيوات في سكون الليل قد هدأت حركاتهم، وسكنت أصواتهم، ونامت عيونهم، وصاروا إخوان الأموات، إذا أقبل من النهار داعيه، وأسمع الخلائق مناديه، فانتشرت منهم الحركات، وارتفعت منهم الأصوات، حتى كأنهم قاموا أحياء من القبور، يقول قائلهم «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ)»، فهو معاد جديد بدأه وأعاده الذي يبدئ ويعيد فمن ذهب بالليل وجاء بالنهار سوى الواحد القهار؟ وفى قوله «والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر» آيتان شاهدتان بوحدانية منشئهما، وكمال ربوبيته، وعظم قدرته وحكمته فتبارك الذي جعل طلوع الشمس وغروبها مقيماً لسلطان الليل والنهار، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كله،فكيف كان الناس يسعون في معاشهم، ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم؟وكيف كانت تهنئهم الحياة مع فقد لذة النور وروحه، وأى ثمار ونبات وحيوان كان يوجد؟ وكيف كانت تتم مصالح أبدان الحيوان والنبات؟ ولولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار، مع علم حاجتهم إلى الهدوء لراحة أبدانهم، وجموم حواسهم، فلولا جثوم هذا الليل عليهم بظلمته ما هدأوا ولا قروا ولا سكنوا، بل جعله أحكم الحاكمين سكناً ولباساً، كما جعل النهار ضياء ومعاشاً، ولولا الليل وبرده لاحترقت أبدان النبات والحيوان من دوام شروق الشمس عليها وكان يحرق ما عليها من نبات وحيوان، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن جعلها سراجاً يطلع على العالم في وقت حاجتهم إليه، ويغيب في وقت استغنائهم عنه فطلوعه لمصلحتهم، وغيبته لمصلحتهم وصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متضافرين على مصلحة هذا العالم وقوامه، فلو جعل الله سبحانه النهار سرمداً إلى يوم القيامة والليل كذلك، لفاتت مصالح العالم واشتدت الضرورة إلى تغيير ذلك وإزالته بضده.

ونرى حكمته سبحانه في ارتفاع الشمس وانخفاضها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة، وما في ذلك من مصالح الخلق، ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات، فتتولد منها مواد الثمار، ويكثف الهواء فينشأ منه السحاب وينعقد فيحدث المطر الذي به حياة الأرض، ونماء أبدان الحيوان والنبات، وحصول الأفعال والقوى وحركات الطبائع. وفي الصيف يخرم الهواء، فينضج الثمار، وتشتد الحبوب، ويجفف وجه الأرض، فيتهيأ للعمل وفي الخريف يصفو الهواء وتبرد الحرارة ويمتد الليل، وتستريح الأرض والشجر للحمل والنبات مرة ثانية، بمنزلة راحة الحامل بين الحملين، ففي هذه الأزمنة مبدأ ومعاد مشهود، وشاهد بالمبدأ والمعاد الغيبي.

والمقصود أن بحركة هذين النيرين تتم مصالح العالم، وبذلك يظهر الزمان، لأنه مقدار الحركة، فالسنة الشمسية مقدار سير الشمس من نقطة الحمل إلى مثلها، والسنة القمرية مقدرة بسير القمر، وهو أقرب إلى الضبط، واشترك الناس في العلم به وقدر أحكم الحاكمين تنقلهما في منازلهما، لما في ذلك من تمام الحكمة ولطف التدبير، فإن الشمس لو كانت تطلع وتغرب في موضع واحد لا تتعداه لما وصل ضوؤها وشعاعها إلى كثير من الجهات، فكان نفعها يفقد هناك، فجعل الله سبحانه طلوعها دولا بين الأرض لينال نفعها وتأثيرها البقاع، فلا يبقى موضع من المواضع التي يمكن أن تطلع عليها إلا أخذ قسطه من نفعها.فكان في هذا التقدير والتدبير المحكم من الآيات والمصالح والمنافع ما يشهد بأن ذلك تقدير العزيز العليم، ولهذا يذكر سبحانه هذا التقدير ويضيف إلى عزته وعلمه.

وعبر القرآن الكريم عن التكوير، فوصف تكور الليل على النهار وتكور النهار على الليل. وكما يقول د.بلاشير في ترجمته للقرآن إن«كور» معناها لف. وهذه العملية يعبر عنها القرآن الكريم بكل دقة وكأن اكتشاف استدارة الأرض تم في عصر التنزيل،رغم أن اكتشاف العلم لم يأت إلا مؤخراً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"