احتياط الصحابة والتابعين في‮ ‬رواية الحديث

وما ينطق عن الهوى
01:25 صباحا
قراءة 5 دقائق

عرف الصحابة منزلة السنة فتمسكوا بها، وتتبعوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبوا أن‮ ‬يخالفوها متى ثبتت عندهم، كما أبوا أن‮ ‬ينحرفوا عن شيء، فارقهم عليه، واحتاطوا في‮ ‬رواية الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، خشية الوقوع في‮ ‬الخطأ، وخوفاً من أن‮ ‬يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب أو التحريف، وهي‮ ‬المصدر التشريعي‮ ‬الأول بعد القرآن الكريم، ولهذا اتبعوا كل سبيل‮ ‬يحفظ على الحديث نوره، فآثروا الاعتدال في‮ ‬الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بعضهم فضل الإقلال منها، قال ابن قتيبة‮: (‬كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية، أو أتى بخبر في‮ ‬الحكم لا شاهد له عليه، وكان‮ ‬يأمرهم بأن‮ ‬يقلوا الرواية، يريد بذلك ألا‮ ‬يتسع الناس فيها، ‬ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، كأبي‮ ‬بكر والزبير وأبي‮ ‬عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا‮ ‬يكاد‮ ‬يروي شيئاً‮ ‬كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة‮).‬
يذكر الإمام شمس الدين أبو‮ ‬عبد الله محمد بن أحمد الذهبي‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ «‬تذكرة الحفاظ‮» ‬أن الصحابة، رضوان الله عليهم التزموا في‮ ‬الخلافة الراشدة منهاج عمر رضي‮ ‬الله عنه، وأتقنوا أداء الحديث، وضبطوا حروفه ومعناه، وكانوا‮ ‬يخشون كثيراً‮ ‬أن‮ ‬يقعوا في‮ ‬الخطأ، لذلك نرى بعضهم مع كثرة حفظهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم‮ لا‮ ‬يكثر من الرواية في‮ ‬ذلك العهد، حتى إن منهم من كان لا‮ ‬يحدث حديثاً‮ ‬في‮ ‬السنة، ونرى من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده، ويتغير لونه ورعاً واحتراماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا، ما رواه عمرو بن ميمون قال‮: (‬ما أخطأني‮ ‬ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال‮: ‬فما سمعته‮ ‬يقول بشيء قط‮ (‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‮) ‬فلما كان ذات عشية قال‮: (‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فنكس، ‮ فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال‮: ‬أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريباً‮ ‬من ذلك، أو شبيهاً بذلك‮.‬


أنس وأبو الدرداء


‮وقال أنس بن مالك رضي‮ ‬الله عنه‮: ‬لولا أني‮ ‬أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم‮. ‬وكان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً‮ ‬ففرغ‮ ‬منه، قال‮: ‬أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان‮ ‬يفعل أبو الدرداء وغيره‮. ‬وجالس الشعبي‮ ‬ابن عمر سنة فما سمعه‮ ‬يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا‮ً. ‬وروى عن أنس أنه قال‮: ‬إنه ليمنعني‮ ‬أن أحدثكم حديثا كثيراً‮ ‬أن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم قال‮: (‬من تعمد عليّ‮ ‬كذباً فليتبوأ مقعده من النار‮). ‬وعن ثابت البناني‮: ‬أن بني‮ ‬أنس بن مالك قالوا لأبيهم‮: ‬يا أبانا، ألا تحدثنا كما تحدث الغرباء؟ قال‮: ‬أي‮ ‬بني‮ ‬إنه من‮ ‬يكثر‮ ‬يهجر‮.‬
‬وقال عبد الرحمن بن أبي‮ ‬ليلى‮: (‬أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد‮ ‬يحدث بحديث إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا‮ ‬يستفتى‮ ‬عن شيء‮ ‬إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه‮). ‬وفي‮ ‬رواية‮: (‬يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول‮). ‬وقال مجاهد‮: ‬صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة‮ ‬فما سمعته‮ ‬يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث‮: ‬مثل المؤمن من النخلة‮. ‬وقال السائب بن‮ ‬يزيد إنه صحب سعداً بن أبي‮ ‬وقاص من المدينة إلى مكة، قال‮: ‬فما سمعته‮ ‬يحدث عن النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم حديثاً حتى رجع‮.‬


لا زيادة ولا نقصان


‮وعن عبد الله بن الزبير، قال‮: ‬قلت للزبير بن العوام‮: ‬مالي‮ ‬لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسمع ابن مسعود وفلاناً وفلاناً ؟ قال‮: ‬أما إني‮ ‬لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني‮ ‬سمعت منه كلمة‮ ‬يقول‮: (‬من كذب علي‮ّ ‬متعمداً فليتبوأ مقعده من النار‮) ‬وفي‮ ‬رواية‮: ‬سمعته‮ ‬يقول‮: (‬من كذب علي‮ّ ‬فليتبوأ مقعده من النار‮). ‬وعن عبد الرحمن بن أبي‮ ‬ليلى قال‮: ‬قلنا لزيد بن أرقم‮: ‬حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‮: ‬كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد‮.‬
‮ ‬ويقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتابه «‬السنة قبل التدوين»‬، هكذا تشدد الصحابة في‮ ‬الحديث، وأمسك بعضهم عنه كراهية التحريف، أو الزيادة والنقصان في‮ ‬الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأن كثرة الرواية كانت في‮ ‬نظر كثير منهم مظنة الوقوع في‮ ‬الخطأ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى رسول الله عن الكذب عليه وعن رواية ما‮ ‬يرى أنه كذب، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام‮: (‬من روى عني‮ ‬حديثاً وهو‮ ‬يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين‮). ‬وعن أبي‮ ‬هريرة قال‮: ‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‮: (‬كفى بالمرء كذباً أن‮ ‬يحدث بكل ما سمع‮). ‬وكان الصحابة رضي‮ ‬الله عنهم‮ ‬يخشون أن‮ ‬يقعوا في‮ ‬الكذب عامة، فكيف‮ ‬يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال علي‮ ‬رضي‮ ‬الله عنه‮: ‬إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً‮ ‬فلأن آخر من السماء أحب إلي‮ ‬من أن أكذب عليه‮.‬


وقاية من الدس


‮ ‬وقد تشدد عمر بن الخطاب في‮ ‬تطبيق هذا المنهاج، فحمل الناس على التثبت مما‮ ‬يسمعون، والتروي‮ ‬فيما‮ ‬يؤدون، فكان له الفضل الكبير في‮ ‬صيانة الحديث من الشوائب، وقد طبق ذلك الصحابة أيضاً، يقول ابن مسعود‮: ‬ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم الخشية‮.‬
‮ ‬ويروى أن معاوية كان‮ ‬يقول‮: ‬اتقوا الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان‮ ‬يذكر منها في‮ ‬زمن عمر، فإن عمر كان‮ ‬يخوف الناس في‮ ‬الله تعالى‮.‬
‮ ‬تلكم طريقة الصحابة ومنهجهم في‮ ‬المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشية الوقوع في‮ ‬الخطأ، أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تحمل بعض الأحاديث على‮ ‬غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أخذ به‮. ‬فعلوا ذلك كله احتياطاً للدين ورعاية لمصلحة المسلمين، لا زهداً‮ ‬في‮ ‬الحديث النبوي‮ ‬ولا تعطيلاً له‮. ‬فلا‮ ‬يجوز لإنسان أن‮ ‬يفهم من منهاج الصحابة ومن تشدد عمر خاصة هجر الصحابة للسنة أو زهدهم فيها، معاذ الله أن‮ ‬يقول هذا إلا جاهل أو صاحب هوى، لا علم له بقليل من السنة، ‮ فقد ثبت عن الصحابة جميعاً تمسكهم بالحديث الشريف وإجلالهم إياه، وأخذهم به‮. ‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"