عرف الصحابة منزلة السنة فتمسكوا بها، وتتبعوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبوا أن يخالفوها متى ثبتت عندهم، كما أبوا أن ينحرفوا عن شيء، فارقهم عليه، واحتاطوا في رواية الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، خشية الوقوع في الخطأ، وخوفاً من أن يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب أو التحريف، وهي المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم، ولهذا اتبعوا كل سبيل يحفظ على الحديث نوره، فآثروا الاعتدال في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بعضهم فضل الإقلال منها، قال ابن قتيبة: (كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية، أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يريد بذلك ألا يتسع الناس فيها، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة).
يذكر الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي في كتابه «تذكرة الحفاظ» أن الصحابة، رضوان الله عليهم التزموا في الخلافة الراشدة منهاج عمر رضي الله عنه، وأتقنوا أداء الحديث، وضبطوا حروفه ومعناه، وكانوا يخشون كثيراً أن يقعوا في الخطأ، لذلك نرى بعضهم مع كثرة حفظهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكثر من الرواية في ذلك العهد، حتى إن منهم من كان لا يحدث حديثاً في السنة، ونرى من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده، ويتغير لونه ورعاً واحتراماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا، ما رواه عمرو بن ميمون قال: (ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما كان ذات عشية قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فنكس، فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريباً من ذلك، أو شبيهاً بذلك.
أنس وأبو الدرداء
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ففرغ منه، قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان يفعل أبو الدرداء وغيره. وجالس الشعبي ابن عمر سنة فما سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً. وروى عن أنس أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعمد عليّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار). وعن ثابت البناني: أن بني أنس بن مالك قالوا لأبيهم: يا أبانا، ألا تحدثنا كما تحدث الغرباء؟ قال: أي بني إنه من يكثر يهجر.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: (أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يحدث بحديث إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه). وفي رواية: (يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول). وقال مجاهد: صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث: مثل المؤمن من النخلة. وقال السائب بن يزيد إنه صحب سعداً بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً حتى رجع.
لا زيادة ولا نقصان
وعن عبد الله بن الزبير، قال: قلت للزبير بن العوام: مالي لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسمع ابن مسعود وفلاناً وفلاناً ؟ قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعت منه كلمة يقول: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وفي رواية: سمعته يقول: (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار). وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قلنا لزيد بن أرقم: حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد.
ويقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين»، هكذا تشدد الصحابة في الحديث، وأمسك بعضهم عنه كراهية التحريف، أو الزيادة والنقصان في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأن كثرة الرواية كانت في نظر كثير منهم مظنة الوقوع في الخطأ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى رسول الله عن الكذب عليه وعن رواية ما يرى أنه كذب، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع). وكان الصحابة رضي الله عنهم يخشون أن يقعوا في الكذب عامة، فكيف يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلأن آخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه.
وقاية من الدس
وقد تشدد عمر بن الخطاب في تطبيق هذا المنهاج، فحمل الناس على التثبت مما يسمعون، والتروي فيما يؤدون، فكان له الفضل الكبير في صيانة الحديث من الشوائب، وقد طبق ذلك الصحابة أيضاً، يقول ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم الخشية.
ويروى أن معاوية كان يقول: اتقوا الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان يذكر منها في زمن عمر، فإن عمر كان يخوف الناس في الله تعالى.
تلكم طريقة الصحابة ومنهجهم في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشية الوقوع في الخطأ، أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تحمل بعض الأحاديث على غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أخذ به. فعلوا ذلك كله احتياطاً للدين ورعاية لمصلحة المسلمين، لا زهداً في الحديث النبوي ولا تعطيلاً له. فلا يجوز لإنسان أن يفهم من منهاج الصحابة ومن تشدد عمر خاصة هجر الصحابة للسنة أو زهدهم فيها، معاذ الله أن يقول هذا إلا جاهل أو صاحب هوى، لا علم له بقليل من السنة، فقد ثبت عن الصحابة جميعاً تمسكهم بالحديث الشريف وإجلالهم إياه، وأخذهم به.