بيوت المثقفين الراحلين.. مهجورة

03:27 صباحا
قراءة 6 دقائق
** استطلاع: أوميد عبدالكريم إبراهيم

توصفُ الأممُ التي لا تقدِّر مبدعيها ومثقفيها من أدباء وكتّاب وشعراء وغيرهم، بأنها تقع خارج الإطار الزماني والمكاني الذي يعيش فيه هذا العالم، وأنها تفتقر للسويِّةِ الثقافية والمعرفية، والارتقاء الفكري، وفي الوقت الذي تتعدد فيه أوجه تكريم أولئك المبدعين، فإن المتاحف التي تضم مقتنياتهم الشخصية، أشهر الأماكن التي كانوا يكتبون فيها، المنحوتات واللوحات التي تتحدث عنهم، الجوائز التي حققوها، أبرز المحطات والأحداث التي شهدتها مسيراتهم، وغيرها، تعتبر من أبرز الوسائل الحضارية في التكريم، وفي الوقت ذاته يمكن أن تكون شكلاً للتوثيق الفكري والإبداعي الذي يميز كلَّ شعب عن سواه.
يتحدث عدد من المثقفين في هذا الاستطلاع عن الأسباب التي تحول دون إنشاء هذا النوع من المتاحف في العالم العربي أسوةً بأغلبية دول الغرب، ويشيرون إلى أن الأسباب تتنوع وتختلف من بلد إلى آخر، من بينها عدم تبلور ثقافة المتاحف الخاصة بالمبدعين في المجتمعات العربية، غياب بناء تصور جاذب للناس حول قيمة هذه المتاحف، شحّ الدراسات المتعلقة بالمبدعين أنفسهم، وكذلك ضعف البنية التحتية في بعض الحالات.


مَوطنُ قوة


يؤكد الكاتب الأكاديمي د. علي بن تميم أن البلدان التي تحتفي بمبدعيها تسعى من وراء ذلك إلى تعزيز مواطن القوة وعناصر الإلهام والإبداع، ولا شكَّ في أن العالم العربي بحاجة للتركيز على المتاحف التي تؤرخ التراث العربي الوطني أو القديم، وهو أمر صعب يحتاج لجهود ورؤية معمقة، وبحث كبير، ولكن هذا لا يبرر عدم وجود هذا النوع من المتاحف التي تعتبر بمثابة بيوت للأدباء والكتّاب والمبدعين عموماً، وهذه الفكرة ليست وليدة اللحظة؛ بل إنها قديمة وتعود لقرون سابقة، ولدينا أمثلة على بيوت المبدعين، ولكن يبدو أن التحدي الكبير الذي يواجهه العالم العربي هو بناء تصور يجذب الناس إلى بيوت المبدعين؛ بحيث يكون علمياً وينقل معلومة.
لو نظرنا إلى العالم العربي لرأينا هذه الجزئية أكثر تعقيداً، ولكن هناك مجتمعات بدأت تهتم بهذا السياق، خصوصاً في البحرين، ويبدو أن هناك مبادرات إماراتية أيضاً لحذو تلك التجارب في تكريم المبدعين، ولكن ثمةَ تحديات كبيرة من حيث تقديم دراسات مهمة عن هؤلاء المبدعين، وهذه العمليات يجب أن تكون بالتوازي، ففائدة مثل هذه المتاحف أو «بيوت المبدعين» كبيرة، وتجسد تطوراً فكرياً وتعطي صورة مشرقة عن المجتمعات، وقيمة رفيعة لمواهب فردية وتسليط الضوء عليهم، ونحن الآن نستبشر خيراً؛ حيث بدأت وزارة الثقافة الإماراتية ببعض الخطوات في هذ الإطار، ولا شك في أن هذا الموضوع بالغ الأهمية، خصوصاً إذا تم ربطه بحركة التعليم والمدارس، فهذا يحفز الناس ويشجعهم على الالتفات إلى الجانب الإبداعي، وربما البدء بالكتابة أيضاً، ويعطي دفعة مهمة جداً، ولكن يجب أن تكون هناك معايير واضحة في هذا السياق.


فعلٌ حضاري


يشير الكاتب والشاعر إبراهيم الهاشمي إلى أن متاحف المبدعين فعل حضاري تمارسه الدول المتقدمة، وفي الإمارات على سبيل المثال لا يوجد سوى متحف للشاعر الكبير مبارك العقيلي؛ حيث تحول منزله إلى متحف يضم الكثير من مقتنياته، وصوراً من مؤلفاته ودواوينه الشعرية وما كتب عنه، وأتصور أن هناك شعراء وفنانين وكتّاباً وأدباء متميزين؛ بعضهم أحياء، والبعض الآخر رحل عنّا، ويجب أن يتطور الأمر لكي تتحول مثل هذه البيوت «بيوت الشعراء مثلاً» إلى متاحف؛ ليس فقط بهدف عرض المنتج الفكري والأدبي الذي لا شك في أنه عمل مهم؛ بل لأنها سمة حضارية يمكن أن تصف بها المجتمع الإماراتي الذي يضم الكثير من المفكرين والأدباء والفنانين، واليوم نجد السيّاح أيضاً يقصدون مثل هذه الأماكن، وعليه فإن مثل هذه المتاحف لن يقتصر دورها على الجانب الأدبي والفكري فقط؛ بل ستكون بمثابة نقاط جذب سياحية أيضاً.
هناك الكثير من الأسماء التي رحلت عنّا ويمكن الإشارة إليها في هذا الإطار، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الشاعر حمد بوشهاب، الدكتور أحمد أمين المدني، سلطان بن علي العويس وغيرهم الكثير، ولكن فكرة إنشاء متاحف للمبدعين يمكن أن تشمل الأحياء أيضاً؛ بهدف عرض نتاجاتهم الفكرية أو الأدبية أو الفنية وغيرها، وهذا أمرٌ مُلحٌّ من المهم أن نبدأ به، وفي هذا السياق أَودّ أن أُشيد بتجربة الإخوة في مملكة البحرين الذين سبقونا إلى هذا العمل، وتم تحويل الكثير من البيوت إلى متاحف، ولذات الغرض كان هناك تعاون بين وزارتي الثقافة في الإمارات والبحرين، وأنا على يقين بأن وزارة الثقافة الإماراتية قادرة على تأصيل هذه الفكرة في المجتمع.


جهود فردية


يقول الكاتب والروائي ناصر عراق: أغلب الظن أن ثقافة المتاحف الخاصة بالمبدعين العرب لم تعرف الطريق إلينا إلا منذ فترة قريبة؛ ذلك أن الشعوب العربية بأسرها ظلت واقعة في قبضة الاحتلال الأوروبي قروناً عدة، الأمر الذي انعكس بالسلب على مستوى تعليم هذه الشعوب، ومن ثم شَحُبَ تفاعلها وانفعالها مع مجالات الفنون والآداب المختلفة، وهو أمر مؤسف بلا ريب، ومن هنا تصبح الجهود الفردية فقط لهذا المسؤول أو ذاك هي التي تقف وراء تشييد متحف لمبدع عربي ما، ففي عام 1938 لعبت السيدة هدى شعراوي وبعض المثقفين والمبدعين المصريين الدور الحاسم في إنشاء متحف يضم أعمال ومقتنيات الفنان المصري الكبير محمود مختار صاحب التمثال الأشهر «نهضة مصر»، وبعد ذلك انتبه أصحاب القرار إلى أهمية المتاحف في حياة الشعوب، فأنشأوا متحف أحمد شوقي ثم متحف أم كلثوم، وأخيراً متحف نجيب محفوظ، ومع ذلك يجب علينا الاعتراف بأن ثقافة ارتياد متاحف المبدعين لم تستقر في عقول الناس ووجدانهم بعد، وأظن أن على وزارات الثقافة والتربية والتعليم والسياحة والآثار في الدول العربية أن تبذل جهوداً أكبر من أجل نشر ثقافة الاهتمام بالمتاحف الخاصة بالأدباء والفنانين والتشجيع على ارتيادها.
إن إطلاق الجوائز السخية التي تحفز الشباب على البحث والتمحيص في حياة كبار المبدعين من خلال زيارات دائمة لمتاحفهم، من شأنه أن يساعد على ترسيخ منظومة الاهتمام والحفاوة بنجوم المجتمع في الأدب والفن.


توثيق للعطاء


يُشيد الكاتب المسرحي عبد الله الأستاذ بفكرة إنشاء هذا النوع من المتاحف، ويلفت إلى أن هذه الفكرة موجودة في الكثير من دول العالم، فلماذا لا يكون لدينا مثل هذه المتاحف في بلداننا؛ من أجل توثيق تاريخ وعطاء المبدعين بمختلف مجالاتهم؟، وهنا لا بد أن نتساءل: هل يعتبر الفن والثقافة بمختلف أشكالهما في العالم العربي من الضروريات أم الكماليات؟؛ أتصورُ أنهما نوع من الكماليات في الأغلب، وعليه قد لا نجد أي اهتمام بعملية صنع منحوتات من الشمع لبعض المبدعين مثلاً؛ أو أن يتم تجميع مقتنياتهم في مكان ما، وربما تكون الحلقة الأضعف موجودة لدى المسؤولين عن دوائر الثقافة في مختلف الدول، ومن المؤسف أن المبدعين من كتّاب وأدباء وشعراء وفنانين يعتبرون مجرد «تحصيل حاصل» في أغلبية دول العالم العربي، بعبارة أخرى يمكن القول إننا نرغب في أن يكون لدينا مبدعون بمختلف المجالات، ولكن دون أن نبذل أو نصرف على هذا القطاع الفكري والحضاري، أي أن التركيز منصب على الشكليات وليس على التفاصيل، فأغلب وزارات الإعلام والثقافة في العالم العربي على سبيل المثال ينصب عملها في إقامة المهرجانات وما شابه.
يمكن طرح مثال آخر في هذا الإطار، وهو عدم وجود جمعية للفنانين الموسيقيين في الإمارات مثلاً، على الرغم من أهمية مثل هذه الجمعيات التي يبدأ الاهتمام بالمبدعين من خلالها، أو يمكن اعتبارها بمثابة نواة لأُطرٍ أوسع، فكيف سيكون هناك اهتمام أكبر من جانب الدول بهؤلاء المبدعين؟، وفي ذات السياق، وباعتبار أن هناك جمعية للمسرحيين في الإمارات، فإن بإمكانها أن تنطلق من ذاتها من خلال جمع مقتنيات المسرحيين والأعمال التي أُنجزت، لا شك في أن على الدوائر الثقافية والجمعيات القائمة متابعة هذه القضية والاهتمام بها، ولكن من المؤسف أن يكون المبدعون في عالمنا العربي أقل شريحة تحظى بالاهتمام، وأقصى ما يمكن أن يقام لهم هو حفل تأبين عند وفاتهم.


فكرةٌ وعوائق


يرى الكاتب والشاعر أحمد العسم أن مصدر الفكرة قد يكون إنساناً بسيطاً، ومن هذا المنطلق حوَّلتُ جزءاً من منزل والدي القديم إلى مكان للتوثيق يمكن أن يكون بمثابة متحف مصغر، وجمعت فيه كل ما كُتب عني، وكل ما يتعلق بي، وعلقتها على أحد الجدران؛ كما علقت صور الأصدقاء، وصور وأعمال الراحلين من المثقفين والمبدعين على جدار آخر، وكل صورة تحكي قصة محددة، وأنا من يرويها لكل مهتم بمعرفة ما بداخلها، ولا شك في أن مؤسسات الدولة مهتمة بالمثقفين ونتاجاتهم، فنحن بحاجة إلى جمع أدب ومخطوطات أولئك المبدعين في متحف، وعلى سبيل المثال لا الحصر لدينا الشاعر جمعة الفيروز، وقد أُطلق اسمه على إحدى صالات اتحاد الكتاب بعد رحيله، ولكن ذلك لا يكفي، فلهذا الشاعر مكتبة تضم آلاف الكتب والمخطوطات وغيرها، إلى جانب مقتنياته الشخصية، وكلها تستحق أن تُحفظ وتُعرض في متحف.
هناك عدة عوائق تقف حائلاً أمام إنشاء مثل هذه المتاحف؛ على رأسها عائلة المبدع التي يمكن أن تمنع وصول مؤسسات الدولة إلى مقتنيات ابنها بغض النظر عن الأسباب، وبالتالي تمنع تكريم أعماله، وأعتقد أن نتاجات المبدعين ليست ملكاً لعائلاتهم فقط، بل هي ملك للدولة وللباحثين عن تذوق الإبداع أيضاً، ومن العوائق الأخرى ضعف البنية التحتية في بعض الدول، ولكن مع الأسف في العالم العربي لا يولي أحد أي اهتمام بالمبدعين، بل إن الكثير من أبناء الأجيال الحالية لم يتم تعريفهم بمبدعيهم ومثقفيهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"