لقاء الأحفاد

من يوميات عام «كورونا» (10)
02:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

كُسِرت قيود العزلة، ذات ليلة، وشاركنا الأبناء والأحفاد، إفطاراً افتقدنا شهيته «الجمعية» طوال الأسبوع الأول من شهر الصوم، استمتعنا بضحكات وصخب الصغار، حنو الكبار، وكأننا عدنا إلى الإيقاع الطبيعي للحياة.
لقد ذكّرنا فيروس «كورونا» بأننا، كبشر، لا تطيب حياتنا من غير مشاركة الآخرين إنسانيتنا، نمرض ونصحّ ونضعف، نحزن ونفرح، ونتقاسم المخاوف والهواجس والمسرات، وبالطريقة نفسها.
كما ذكّرنا الفيروس الشرس بأن الحرية هي مسؤولية وضرورة في آن، وأن مؤسسة الأسرة هي مؤسسة خالدة وفطرية وسكينة ورحمة وتكافل ومشاركة.
ذكّرتنا دموع فرحة اللقاء، بعد أكثر من شهر من العزلة الإلزامية، بدموع الفرح واللهفة في أزمنة الطفولة، وبلحظات السفر البعيد للأبناء عند الافتراق (واللقاء بعد غياب)، نحو الجامعة في الخارج، أو الانتقال إلى بيت الزوجية.
أتأمل الأحفاد، وأنا أسألهم عن دراستهم «عن بعد»، وعن حالة إدمانهم على الإنترنت، وعن مهاراتهم الجديدة المكتسبة أثناء إغلاق أبواب مدارسهم، وأسمع شكواهم من ضعف برنامج اللغة العربية في منظومة التعليم «عن بعد»، وتساؤلات أخرى حول الفيروس، وتواصلهم مع أصدقائهم عبر برامج التواصل المرئية، وعن الإجازة الصيفية، وفيما إذا ستكون متاحة في هذا الصيف.
نُسافر بذاكرتنا إلى العمر الذي كُنّا فيه نُمشِّط شعر أبنائنا وبناتنا، ونروي لأحفادنا أشياء من حياة الأمس، وملامح الأمومة والأبوة في الرعاية في أزمنة لم تعرف الإنترنت ولا الهاتف الجوّال، ولا الكراهية الجماعية، ولا الفيروسات الجوّالة الشرسة مجهولة «الهُوية» والخريطة الجينية و«الشفرة» والترياق.
في العزلة، التقينا بحميمية بالغة مع شريط الذكريات، فأعدنا إليها البريق، وفتحنا طرقات خضراء إلى أصدقاء وأقارب، وإلى لحظات مسرة مرت بنا.
وقفت في ساعة متأخرة من الليل على شرفة المنزل، التي أصبحت صديقة لي، أطل منها على المنازل المجاورة، والشرفات الأخرى، أسترق السمع لأصوات أطفال، وضحكات سمر وصحبة إنسانية، وأرقب فضاءً شبه مضاء بنصف قمر على وشك الغياب، وببروج سماوية تلوح في البعيد.
كم كنا، ككَّتاب وأدباء، نبحث عن عزلة تسعفنا فيها أقلامنا وأفكارنا، بعيداً عما يشتت الذهن، لكن عزلتنا الإجبارية تجعلنا نفكر في ترتيب أولويات يومنا، ونكثر من التحديق في تدوينات ورسائل الأصدقاء، ونحرص على ممارسة المشي، واعتبار هذه العزلة ترياقاً يحمي الناس من شرور الفيروس، رغم ما فيها من مشقة الترقب الجاثم على النفس.
تشغلني كل يوم أسئلة ما بعد «كورونا»: كيف سيكون حالنا، كعرب ومؤسسات ونظم وتكتلات؟ وكيف سيكون حال النظام الدولي بعد لحظة الاضطراب التي اجتاحت البشرية جمعاء، وتركت الناس في كل مكان يعيشون الأحداث ذاتها وفي الوقت ذاته؟
هل ستنكمش كل دولة على نفسها؟ وهل ستتم «عقلنة» العولمة، فتنبذ المنافسة المتوحشة، وتتبنى مفاهيم الشراكة والتعاون الحقيقي وقواعد الإنصاف؟
كل البشر اعترفوا بفوائد غسل اليدين، لكن إيقاظ الضمير الإنساني مسألة تدعونا إلى الالتفات لأهميتها في هذه الأزمنة، وخاصة حينما يتم استغلال الخوف من فيروس «كورونا»، لتحويله إلى كراهية ضد (الآخر الأجنبي) فضلاً عن سلوك بعض الناس، في مجتمعات دولية غير قليلة، والذي يوحي بفقدان المشاعر الإنسانية، بالتذمر والتعامل مع كبار السن بوصفهم عبئاً.
وإلى أن ينتهي هذا الاضطراب في العالم، نسأل الله العون، ونشد على أيادي علماء وباحثين في مختبراتهم، وهم يبذلون جهودهم لتطوير لقاح ناجح لهذا الوحش الخفي.
إنه يوم حافل، وإن لنا أن نحمد الله أن هيأ لنا هذا اللقاء، ونسأله العفو والفرج.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"