النووي.. مجدد المذهب الشافعي

قامات إسلامية
03:11 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

وصِف بأنه مجدد المذهب الشافعي ومهذبه، ومنقحه ومرتبه، ما جعل فقهاء الشافعية ينحازون إلى ما يرجحه، ولقب بشيخ الشافعية، فإذا أطلق لفظ «الشيخين» عند الشافعية أريد بهما الإمام النووي وأبو القاسم الرافعي القزويني.
هو كبير الفقهاء في زمانه، المحدث والفقيه واللغوي، أثنى عليه كثير من العلماء والفقهاء. ولعل من أجمع ما قيل في الثناء عليه ما قاله تلميذه الآخر أبو العباس بن فرح: «كان الشيخ محيي الدين قد صارت إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شدت إليه آباط الإبل من أقطار الأرض، المرتبة الأولى: العلم والقيام بوظائفه، الثانية: الزهد في الدنيا، الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».


طفولة متفردة


هو محيي الدين بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي، وكنيته أبو زكريا النووي الدمشقي، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمئة، في قرية نوى من قرى حوران بالشام، ولما بلغ عشر سنين وضعه أبوه في دكان، ولكنه لم ينشغل بالبيع والشراء عن تعلم القرآن الكريم وحفظه، حتى ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام، ومكث في قريته حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، ثم ارتحل إلى دمشق سنة تسع وأربعين وستمئة هجرية، فلازم مفتي الشام عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري وتعلم منه، وبقي النووي في دمشق نحواً من 28 سنة أمضاها كلها في بيت صغير في المدرسة الرواحية، يتعلم ويُعلم.
طلب العلم والاستزادة منه على الدوام هو مفتاح شخصية الإمام النووي، فلم يكن يضيع وقتاً في ليل أو نهار إلا في الاشتغال بالعلم، وفي مقدمة شرح صحيح مسلم يقول النووي: «إن الاشتغال بالعلم من أفضل القُرب وأجل الطاعات، وأهم أنواع الخير وآكد العبادات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، وشمّر في إدراكه والتمكن به أصحاب الأنفس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى الخيرات، وسابق إلى التحلي به مستبقو المكرمات».
وكان النووي صاحب عبادة وخوف، خشن العيش، قانعاً بالقوت، تاركاً للشهوات، والمشهور أنه لم يتزوج قط، وقد اشتغل النووي بالتصنيف والمناصحة للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، وكان بعيد المراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من السوء، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان مُحَققاً في علمه وفنونه، مدققاً حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً بأنواعه كلها


فتوى عظيمة


حينما خرج الملك الظاهر بيبرس البندقداري سلطان مصر والشام وقتها إلى قتال التتار بالشام ولم يكن في بيت المال ما يقوم بتجهيز الجيش والإنفاق على المقاتلين، استفتى علماء الشام في جواز فرض ضرائب على الشعب، لإعانة السلطان والجيش على قتال الأعداء وتغطية النفقات المطلوبة، فأفتاه العلماء بجواز ذلك للحاجة والمصلحة، وكتبوا له بذلك، وكان الإمام النووي غائباً، فلما سأل السلطان العلماء: هل بقي من أحد؟ قالوا: نعم بقي الشيخ محيي الدين النووي، فطلبه فحضر فقال له: اكتب خطك (توقيعك) مع الفقهاء، فامتنع الشيخ وأبى، وسأله السلطان: ما سبب امتناعك؟ قال الشيخ: «أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار وليس لك مال، ثم منّ الله عليك وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك، لكل مملوك حياصته من الذهب، وعندك مئتا جارية لكل جارية حُق من الحلي، فإن أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبتون والصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيك بأخذ المال من الرعية».


..ورسالة أعظم


غضب الملك الظاهر من كلامه وقال: اخرج من بلدي يعني دمشق. قال: سمعاً وطاعة. وانتقل منها إلى بلده نوى بأرض حوران، فقال الفقهاء للملك الظاهر بعد ذلك: إن هذا الذي أمرت بخروجه من دمشق من كبار العلماء والصلحاء وممن يقتدى به، وطلبوا منه أن يعيده إلى دمشق، فأمر برجوعه إليها فساروا إليه ورغبوه في الرجوع إلى دمشق وقالوا: قد رسم السلطان برجوعك إليها، فامتنع، وأرسل إلى الملك الظاهر يرغبه في طاعة الله بأسلوب فيه ترغيب وترهيب، وكان مما كتبه في رسالته إلى الملك ووقع معه بعض العلماء: «أنعم الله تعالى علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان أعز الله أنصاره، فقد أقامه الله لنصرة الدين، والذب عن المسلمين، وأذل له الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين وسائر المارقين، ومهّد له البلاد والعباد، وقمع بسببه أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة، فلله الحمد على هذه النعم المتظاهرة والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين، وزيادتها في خير وعافية آمين». وقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد الزيادة للشاكرين، فقال تعالى: «لئن شكرتم لأزيدنكم»، وقد لحق بالمسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضرر، لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين؛ بل من في يده شيء فهو ملكه، لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلف بإثباته، وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع، ويوصي نوابه به، فهو أولى من عمل به، والمسؤول: «إطلاق الناس من هذه الحوطة والإفراج عن جميعهم، فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه».


بحر من العلم


صنّف الإمام كتباً في الحديث والفقه عمّ النفع بها، وانتشر في أقطار الأرض ذكرها؛ منها: المنهاج في الفقه، وشرح مسلم، ومنها المبهمات، ورياض الصالحين، والأذكار، وكتاب الأربعين النووية، والتيسير في مختصر الإرشاد في علوم الحديث، ومنها الإرشاد، ومنها التحرير في ألفاظ التنبيه، والعمدة في صحيح التنبيه، والإيضاح في المناسك، والإيجاز في المناسك، ومنها التبيان في آداب حملة القرآن ومختصره، ومنها مسألة الغنيمة، وكتاب القيام، ومنها كتاب الفتاوى، ومنها الروضة في مختصر شرح الرافعي، وقطعة في شرح التنبيه، وقطعة في شرح البخاري، وقطعة يسيرة في شرح سنن أبي داود، وقطعة في الإسناد على حديث الأعمال والنيات، وقطعة في الأحكام، وقطعة كبيرة في التهذيب للأسماء واللغات، وقطعة مسودة في طبقات الفقهاء، ومنها قطعة في التحقيق في الفقه إلى باب صلاة المسافر، ومسودات كثيرة.
وفي نهاية مشواره في الدنيا رد الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، فدعا لهم وبكى، وزار أصحابه الأحياء وودعهم، وزار والدَه وزار بيت المقدس والخليل، ثم رجع الإمام إلى نَوى؛ فمرض بها، وكان يسأل أن يموت بأرض فلسطين، فاستجاب الله تعالى منه، وتوفي في ليلة أربع وعشرين من رجب سنة خمس وسبعين وستمئة الموافق 1278 ميلادية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"