اتفق العلماء على الوجوه الثلاثة لمكانة السنة من القرآن الكريم، ومنزلتها منه، وهي وجوه بيان السنة للقرآن الكريم، بأنواعها الثلاثة، وما جاء في السنة مؤكداً لما في القرآن الكريم، وأنها تفرع على أصل في الكتاب المبين، وهذه محل إجماع منهم، وأما استقلالها بالتشريع وسن ما ليس فيه نص كتحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وعدم جواز الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها في النكاح فقد أقره العلماء واختلفوا في توجيهه، وتخريجه وتعليله.
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة النبوية (مكانتها حفظها وتدوينها، تفنيد بعض الشبهات حولها)»: «بين الحين والآخر تطل علينا قضية النسخ بين القرآن والسنة، فالقرآن مقدم على السنة من حيث الرتبة، فلا ينسخ القرآن بالسنة، وهذا يعني أن السنة لا يمكن أن تأتي بما يعارض القرآن الكريم على وجه لا يمكن الجمع بينهما. ولو فرضنا جدلاً أنه روي شيء من ذلك، فتكون السنة منسوخة، أو يكون محل الاستدلال بها في غير موضعه، أو قد تكون الآية منسوخة بآية أخرى. فإذا لم يكن شيء من هذا كله فلا تكون الرواية ثابتة. وعلى الباحث أن يعود إلى علم مختلف الحديث ومشكله، أي علم تأويل الحديث».
«لا وصية لوارث»
إن القرآن والسنة متساويان، وعند التعارض يقدم المتأخر منهما على الآخر، وإذا لم يعرف المتقدم من المتأخر يتوقف في المسألة، وأصحاب هذا القول يجيزون نسخ القرآن بالسنة، ويقول بعض المعاصرين (الكتاب أحوج إلى السنة من حاجة السنة إليه) ومثل هذه الأقوال تدخل لبساً في موضوع مكانة السنة من التشريع، ومكانتها من القرآن الكريم، ولم يرد شيء من الأحاديث الصحيحة ناسخ لشيء من كتاب الله تعالى. ونقل الإمام الغزالي عن بعضهم أن ذلك لم يقع أصلاً.
وكل ما نقل في نسخ الحديث للقرآن الكريم خمسة أحاديث، منها: حديث (لا وصية لوارث)، قيل: إنه ناسخ لقوله تعالى: «إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين»، (البقرة: ١٨٠)، وخلاصة القول في هذا إن النسخ إنما هو بآيات المواريث، ولكن لما احتمل أن آية المواريث تضم للوالدين والأقربين حظاً آخر، أو تبدل حظاً من حظ، جاء الحديث مبيناً أن المراد الاحتمال الثاني، فلولا هذا الحديث لأمكن الجمع للوارث بين الميراث والوصية، فكان الحديث مبيناً لا ناسخاً.
وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب جلد مئة والرجم، والبكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة) أنه ناسخ لآية إمساك الزواني في البيوت في قوله تعالى: «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً» (النساء: ١٥).
ويذكر الإمام ابن حزم في كتاب «الأحكام»، أن الحديث المذكور ليس ناسخاً للآية بل مبين للسبيل الذي ذكره الله تعالى فيها.
قتال الطائف
أما فيما يتعلق بحديث قتال الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الطائف في شهر ذي القعدة الحرام، قال بعض الفقهاء إن ذلك ناسخ لقوله تعالى: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير» (البقرة: ٧١٢)، ونحوها من الآيات الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم. والصواب أن تحريم القتال فيها غير منسوخ، وهو باق على وجه التأبيد، وقتال الرسول صلى الله عليه وسلم لثقيف في الشهر الحرام من باب رد العدوان المذكور في قوله تعالى: «الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين»، (البقرة: ٤٩١). وذكر ابن السمعاني في كتاب «أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام»، أن آيات نسخت بأحاديث، والصحيح أن الأحاديث مخصصة وليست ناسخة، وقالوا: إن الآية الكريمة: «قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم» (الأنعام: ٥٤١). منسوخة بحديث (النهي عن أكل كل ذي ناب من السبع وكل ذي مخلب من الطير).. والصواب أن الحديث مخصص وليس ناسخاً، أو مما استقلت السنة بتحريمه.
الناسخ والمنسوخ
قال أحمد بن حنبل: (السنة تفسر القرآن، ولا ينسخ القرآن إلا القرآن)، وصرح ابن تيمية بأنه يذهب إلى امتناع نسخ القرآن بالسنة وأن ذلك مقتضى حرمة القرآن، وقال الشوكاني: وبه جزم الصيرفي والخفاف، بل نقل بعضهم إجماع الشافعية.
وعن علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» أنه مر على قاض يقضي، قال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال علي: (هلكت وأهلكت)، وأخرج مثله عن ابن عباس. قال البيهقي: قال الشافعي: (ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ في القرآن إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر، فيعلم أن الآخر هو الناسخ، أو بقول من سمع الحديث أو الإجماع). قال: وأكثر الناسخ في كتاب الله إنما عرف بدلالة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن إبراهيم التيمي قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس: (يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يعرفون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي. فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا) قلت: فعرف من هذا وجوب احتياج الناظر في القرآن إلى معرفة أسباب نزوله. وأسباب النزول إنما تؤخذ من الأحاديث.