شرع الله الدين الحنيف في سماحة وحكمة، فلم يأت بما فيه حرج، أو بما ينبو العقل السليم عن قبوله، وكانت هذه السماحة والحكمة من أسباب انتشاره في المعمورة وظهوره على الأديان كلها في أعوام معدودة.
ويقول المفكر الراحل الدكتور محمد عمارة رحمه الله في كتابه «حقائق وشبهات حول السنة النبوية»، «إن عناية المشرع اشتدت بتحذير الناس من أن يحدثوا في الإسلام ما ليس منه»، قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وقال: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». ولم يخلص الدين «مع هذه الزواجر» من طوائف يلصقون ما ينافي سماحته، أو ما يشوه وجه حكمته. وقد كثرت هذه البدع حتى حجبت جانباً من محاسنه، وكان لها أثر في تنكر بعض القلوب لهدايته، وهذا ما حمل كثيراً من أهل العلم على أن يتناولوا البدع بالتأليف خاصة، كما فعل أبو بكر الطرطوشي وأبو إسحاق الشاطبي وغيرهما من رجال الدين».
البدعة في اللغة: الأمر المحدث على غير مثال، محموداً كان الأمر أم مذموماً، وذهب الفقهاء في الحديث عنها مذهبين: أحدهما: مذهب من يتوسع في معناها فيحملها على ما أحدث بعد عهد النبوة سواء أكان راجعاً إلى العبادات أم المعاملات، وسواء أكان حسناً أم قبيحاً. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة. والثاني: ما أحدث من الخير، وهذه محدثة غير مذمومة. وعلى هذه الطريقة جرى عز الدين بن عبد السلام إذ قسم البدعة إلى واجبة، كوضع علم العربية وتعليمه، ومندوبة، كإقامة المدارس، ومكروهة، كتزويق المساجد، ومحرمة، كتلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي، ومباحة، كوضع الأطعمة على الموائد ألواناً. وثانيهما: مذهب من يفسر البدعة بالطريقة المخترعة على أنها من الدين وليست من الدين في شيء، فهي مذمومة في كل حال، ولا يدخل في حقيقتها واجب أو مندوب أو مباح، وعلى هذا المعنى ورد قوله صلى الله عليه سلم: «وكل بدعة ضلالة» وهذا ما يريده الإمام مالك رضي الله عنه في قوله: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة»، لأن الله تعالى يقول: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي»، (المائدة:3).وأصحاب هذه الطريقة يحملون قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح: «نعمت البدعة هذه» على معنى البدعة في اللغة، كما أن أصحاب الطريقة الأولى يذهبون في قوله صلى الله عليه وسلم: (وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) إلى أن المراد من المحدثة والبدعة نوع خاص من المحدثات والبدع وهو ما كان مخالفاً للكتاب والسنة».
أقوال مرجوحة
وأورد الشوكاني في كتابه «إرشاد الفحول» أن الأعمال التي تستند إلى آراء اجتهادية ولو كانت مرجوحة لا تسمى بدعة، وأن الأئمة المجتهدين يرون أقوال مخالفيهم بالنسبة إلى أقوالهم مرجوحة، ولا ينسبونهم إلى ضلال، ولا ينكرون على من يقتدي بهم في المذهب، وإجماعهم على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، شاهد على أن المجتهد لا يرى أن العمل بقول مخالفه بدعة، ولو كان في نظره بدعة، لما أفتى بإقراره وهو يعلم أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا نسمي الصلاة لغير الخسوف والكسوف كالزلزلة والريح الشديدة بدعة وضلالة، وصاحبها مبتدعاً ضالا، لأنها مشروعة عند بعض الأئمة وإن كانت أدلتهم فيما نرى أو يرى الإمام الذي تفقهنا على مذهبه، واهية مرجوحة. ونقول هذا تحذيراً من قوم لم يدرسوا أصول الدين، ولم يتعرفوا مقاصد الشريعة، ولمجرد ما يتلون آية أو حديثاً ويبدو لهم «وهم أشباه العامة» أن ما يقوله الإمام فلان أو الأئمة الأربعة مخالف للآية أو الحديث، يعجلون إلى الإنكار، ولا يبالون أن يسموا العمل «على ما ظهر لهم من أنه مخالف لنص الكتاب أو السنة» بدعة، وصاحبها مبتدعاً.
أشباه العامة
وإذا كان في أشباه العامة من يقرأ الحديث في صحيح الإمام البخاري أو الإمام مسلم «مثلاً» ولا يحسن أن يتفقه فيه على مقتضى أصول الشريعة، فيخف إلى الطعن في مذاهب الأئمة حتى ينبذها بلقب البدعة، فإن في المستضعفين من أهل العلم من يعمد إلى أعمال يبتدعها العامة مخالفة للنصوص الجلية أو القواعد القطعية، فيتطلب لها مخرجاً يبتغي بها مرضاتهم والله ورسوله أحق أن يرضوه (التوبة).62:
ومن أضر البدع ما يكون إتلافاً للمال وإنفاقاً له في غير جدوى كإيقاد الشموع على قبور الأولياء بقصد القربة. ومن أجلبها للخسارة ما يعوق عن فعل خير كالاستخارات غير الشرعية، فقد يتفق لفاتح المصحف أن يقع نظره على آية فيها معنى النهي «مثلاً» فيترك الأمر، ويكون في فعله لو استشار أو اعتمد على الاستخارة الشرعية خير كثير.
البدعة التَركية
ومن المعلوم أن ترك السنة لا يستدعي فعل بدعة «إلا أن ترك السنة على اعتقاد أن خير الدين في تركها، فيكون من قبيل البدعة التركية، كمن يترك الصلاة في جماعة بدعوى أن صلاته في حال انفراد أجمع للقلب وأدعى للخشوع. أما من ترك السنة لغرض دنيوي، فلا يسمى لمجرد تركه السنة مبتدعاً، كما اعتاد الناس ترك تشميت الرؤساء مهابة لهم ولو حمدوا الله تعالى بعد العطاس. عطس المأمون مرة في محضر جماعة فلم يشمته أحد. فقال لهم: لماذا لم تشمتوني؟ قالوا: هبناك، فقال: لا خير في مهابة تحرمني من رحمة الله.
وإذا كانت البدع تشوه وجه الدين الحنيف في نظر من يجهلون حقائقه فضلاً عما تجره من المفاسد العظيمة والمآثم، فمن الواجب على أهل العلم أن يحاربوها بما استطاعوا، وعلى القوة الحاكمة أن تشد أزرهم في تغييرها. وكثير من البدع لا تقتلع عروقها ويطمس على آثارها إلا أن تتعاضد القوتان العلمية والتنفيذية على إماتتها.
وقال العز بن الدين عبد السلام في «رسالة» أنكر فيها بدعة صلاة الرغائب: «ولما صح عند الملك الكامل «رحمه الله» أنها من البدع المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبطلها من الديار المصرية، فطوبى لمن تولى شيئاً من أمور المسلمين، فأعان على إماتة بدعة أو إحياء سنة».