مَطْلُ الغَنيّ.. تعطيل للنمو الاقتصادي

ورق ودين
03:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.إبراهيم علي المنصوري *

تحدثنا في مقال سابق من سلسلتنا هذه، عن الآية الكريمة «فَنَظِرةٌ إلى ميْسَرة»، وكيف أن الله تعالى حث الدائنين على إمهال المدين المعْسِر. وفي المقابل فإن التشريع يقف على حد سواء بين طرفي الديْن: الدائن والمدين، وقد بيّنا الأجر العظيم الذي يناله الدائن في العطاء والتسامح والتصدق بالدَّيْنِ على الدائن. وعَدْلٌ أن نلفت الانتباه إلى المدين الذي تيسرت أموره فأضحى غنياً لا يمنعه شيء من ردّ ما عليه من ديْن. وسوف نُسهب الحديث من جانبين، أولهما الأخروي والذي يُعد المحور الأساس في علاقة المسلم بربه، والرادع لكل انحراف عن مقصد الشارع الحكيم، فمماطلة الغني الموسر وتأخير سداد ديْنه ظلم وحرام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَطْلُ الغَنيّ ظُلم»، فتأخير الغَنيّ ما عليه من دَيْنٍ حرام بل ظُلم كبير، وتعدّ على حقوق الآخرين يستوجب العقاب من الله جل وعلا. ونريد أن نقف هنا مع المتهاونين في سداد ديونهم، من الذين يسّر الله أمورهم، وأغناهم من فضله، ونصف لهم المشهد المهيب، فعَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا يا رسول الله، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟، قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ؛ فهذا أمرٌ جَلل أن يترك النبي، صلى الله عليه وسلم، الصلاة على ميت بسبب ثلاثة دنانير، وفي الناس من تجاوزت ديونه آلاف الدنانير والدراهم ثم يتغافل عنها مع قدرته على السداد، وتراه يَصْرف هنا وهناك ولا يعبأ بدَيْنِه، كأنه لم يسمع النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو يحذر من ذلك:«من كانت عنده مَظْلَمة لأخيه من مال أو عَرَضٍ فليتحللها من صاحبه من قبل أن يُؤخَذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم»، فَلَكَ أيها المسلم، من تساهلت في مصيرك، وغرقت في غفوتك، أن تتخيل عِظمَ المشهد حين تكون أنت من أبى النبي، صلى الله عليه وسلم، الصلاة عليه، بسبب ديْنه، ما هو شعورك؟ وكيف ستكون حالك حينها؟ كلنا يعي عِظم شأن الشهيد ورفعة مكانته عند الله، إلاّ أنه يغفر له كل شيء إلا الديْن، فقد روى عبدُاللَّهِ بن عَمرو بنِ العاص، رضي اللَّه عنْهما، أنَّ رسُول اللَّه، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَغْفِرُ اللَّه للشَّهيدِ كُلَّ ذنب إلاَّ الدَّيْنَ.

أما الجانب الآخر، فهو أثر المماطلة اقتصادياً، حيث إن المماطل يُلحق الضرر الكبير بالدائن والمجتمع بأسره، ويعرِّض نموه الاقتصادي لمخاطر كثيرة، منها تعطيل أموال الدائنين ومن ثم تأجيلُ وإلغاء خطط الاستثمار، فينعكس الأمر سلباً على نمو استثمارات الدولة عامة، وزيادة معدل البطالة وضعف السوق واضطرابه، بالإضافة إلى إلحاق الخسائر الفادحة بأصحاب الحقوق جرّاء المماطلة، فهي تقلل الربحية في أموالهم، وتمنعهم من التوسع في مشاريعهم، وتخوّف المساهمين من المشاركة فيها، بل وتدفعهم إلى الانسحاب من السوق ولو على حساب خسارتهم.

ومن الآثار أيضاً انشغال أصحاب الحق في المطالبة بحقوقهم من المماطلين، مما يعني ضياع الوقت والمال، الذي كان سَيُسْتَغَلّ في زيادة حجم مشاريعهم، أو إنشاء مشاريع أخرى، وهذا ينعكس سلباً على اقتصاد الدولة.

ومن الآثار ضعف قدرة أصحاب الحق أو انعدامها على أداء التزاماتهم المالية المتمثلة في دفع مستحقات موظفيهم، من رواتب أو حوافز وغيرها، مما يؤدي إلى ضعف الإنتاج، وتمرد العمال وبالتالي إعاقة أداء الشركات، ولجوء أصحاب الحق إلى القضاء للحصول على التنفيذ الجبري على المدين المماطل، وهذا يحتاج إلى تكاليف مادية تعود للمحامين وشركات التحصيل وغيرها مما يثقل كاهل الشركة ويعرضها إلى مصروفات لم تكن في خطتها.

وبالنظر إلى واقعنا نرى أن السبب الرئيس في تراكم الديون هو الاستهلاك التفاخري الذي بات مِعْوَل هَدْم للمجتمع وللعلاقات الاجتماعية والاستقرار النفسي للأفراد، لذا جاء المشرع الحكيم ليحقق مصالح العباد والمجتمعات من خلال القضاء على تلك السلوكيات غير الرشيدة.

[email protected]

* أستاذ الاقتصاد والمصارف الإسلامية- المساعد بجامعة الشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"