«قواعد العشق الأربعون»

00:49 صباحا
قراءة 6 دقائق
د. يوسف الحسن

}} نحن أمام امرأة تتلمس الطريق إلى اكتشاف الروح، تخرج من بيتها وأسرتها حافية، وراء درويش صوفي، تشدها قواعد العاشقين في المحبة الإلهية، تستحضر قول العارفين بالله، «عرفنا الله قبل أن نعرفه، وأعطانا قبل أن نسأله». استولت أفكارهم عليها، وصار في حياتها شيء من حياة جلال الدين الرومي، الذي كان أستاذاً للفقه والفلسفة والفلك والكيمياء والجبر، حتى سن الأربعين، حينما دخل درويش صوفي يبيع الحلوى إلى المسجد الذي يخطب فيه الرومي، وقف الدرويش الصوفي عند رأس الرومي، ودار بينهما حوار، بعدها خرج جلال الدين الرومي وراء بائع الحلوى، وتحوَّل من فقيه إلى عاشق صوفي.

}} تذكرت، وأنا أقرأ رواية «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية (إليف شافاق Elif Shafak)، حكاية رابعة العدوية، التي كانت في شبابها من بنات الهوى، وبعد ذلك عاشت حياة صوفية، وقد خرجت ذات يوم من المدينة، وفي إحدى يديها دلو فيه ماء، وفي يدها الأخرى، حزمة من حطب، فالتقت شيخاً سألها عن وجهتها ، فأجابته: «إنني ذاهبة لإطفاء جهنم بدلو الماء، وأحرق الجنة بحزمة الحطب، حتى لا يبقى على وجه الأرض، من يعبد الله خوفاً من النار أو رغبة في الجنة، وحتى يعبده الجميع بالمحبة فقط».
}} تذكرت أيضاً تلك القصيدة المغناة الرقيقة:

عرفت الهوى مُذْ عرفت هواكا

                 وأغلقت قلبي عمَّن سواكَ

وكنت أُناجيك يا مَنْ ترى

                 خفايا القلوب ولسنا نراكَ

أُحبك حُبَّين، حُبَّ الهوى

                     وحبّاً لأنك أهل لذاكَ

}} في رواية (إليف شافاق)، محاولة لترميم زيف عالمنا المعاصر المملوء بالفوضى والاقتتال، ودعوة إلى روحانية عالمية شاملة، تُلغي الفوارق بين البشر، عبر «جهاد النفس»، وقهرها في نهاية المطاف، كما يقول جلال الدين الرومي.

وتتحدث الرواية، عن عشق مشع يتحول فيه القلب لا العقل إلى دليل رئيسي للإنسان، ويتلاشى فيه الفرق بين العشق والفكر.
}} وتدور أحداث الرواية، في صفحاتها الخمسمئة، في زمنين متوازيين.
الزمن الأول، هو الوقت الراهن، وفيه تُروى قصة امرأة أمريكية في الأربعين من عمرها، تعيش حياتها الرتيبة والمرفهة، مع أبنائها الثلاثة وزوجها طبيب الأسنان الناجح، امرأة هادئة الطباع، «ذات قلب طيب، تتحلى بصبر قديسة»، وفق بطاقة كتبها لها زوجها بمناسبة عيد الحب (فالنتاين) امرأة لا تحب المجازفة، «حتى إن تغيير نوع القهوة التي تشربها كل يوم، يعتبر جهداً كبيراً بالنسبة إليها».
}} أما الزمن الثاني الموازي، فهو القرن الثالث عشر ميلادي، حينما كان الصليبيون يجتاحون القسطنطينية، ويعيثون فيها فساداً، وهم في طريقهم لاحتلال القدس، وكانت جيوش المغول بقيادة جنكيزخان تجتاح الشرق، وحيثما ولَّى المرء وجهه كانت هناك حروب وفوضى واقتتال مذهبي وديني، وفي خضم هذه الفوضى والكوارث، عاش (مولانا) جلال الدين الرومي، يحيط به مئات الآلاف من المريدين، وحينما التقى الرومي بالدرويش الصوفي شمس التبريزي في عام 1244 غيَّر لقاؤهما حياة كل منهما، وقد شبَّههما الصوفيون في القرون التالية، «باتحاد محيطين اثنين». تحوّل الرومي من فقيه وشاعر عاطفي، إلى صوفي ملتزم، وقيل إنه ابتدع رقصة الدراويش الصوفية، وفي ذلك العصر المخيف والدموي، دعا الرومي إلى روحانية عالمية، وإلى «جهاد النفس»، لكن أفكاره لم تلقَ ترحيباً في بعض الأوساط، وأسيء فهم الصديقين، وبعد مضي زهاء ثمانمئة سنة، لا تزال روح التبريزي وروح الرومي، تدوران في وسط هذا العالم، وفي أمكنة ما.
}} يبقى جلال الدين الرومي، المتوفى عام 1273، هو أحد رموز الصوفية الفلسفية، والأكثر شهرة في الغرب، وقد جسّد طريق الحب والوجد في التصوف.
وكان الرومي قد غادر موطنه الأصلي في شمال شرقي خراسان، مصطحباً عائلته، فارّاً أمام الغزو المغولي، واستقر في قونية بالأناضول، وكانت وقتها مقراً للسلطنة السلجوقية، وأصبح من كبار العلماء، وافتتح مدرسة شهيرة، يقدم فيها محاضراته وخطبه، وكان يحضرها كبار المسؤولين، وكانت طريقته مؤثرة جداً في السلاطين العثمانيين، وأحياناً لا تروق لبعض العلماء، وبخاصة مشاهد رقصة الدراويش التي كان يقدمها الرومي، وهي الرقصة التي كانت دارجة في حلقات السماع وغناء القصائد الصوفية، وكان الرومي يستعمل لغة بسيطة، بخلاف الحلاج ابن المدرسة البغدادية في التصوف بين القرنين التاسع والعاشر، والذي كانت لغته تميل إلى الغموض، والتطرف الروحاني.
وقد انجذبت الشعوب التركية والفارسية والهندية، إلى شعر الرومي، ولغته البسيطة، لأنها لم تكن لها القدرة على الالتجاء إلى مصادر العلوم الإسلامية المكتوبة باللغة العربية، ووصل إشعاع هذا الشاعر الصوفي إلى المفكر الباكستاني محمد إقبال في الربع الأول من القرن العشرين.
}} وعودة إلى الرواية، فهي تسرد، كيف يتقاطع الراهن مع الماضي، وكيف وقعت (إيلا) بطلة الرواية، في وهج الصوفية، فتغيرت حياتها إلى الأبد، وتحولت من مجرد امرأة عادية إلى عاشقة، فتهجر بيتها وتطلب الطلاق من زوجها، على نحو مماثل لشخصية جلال الدين الرومي، في تأثير الصوفي التبريزي فيه، وبحثه عما ينقذ روحه.
}} وقد جاء هذا التحول لدى بطلة الرواية، بعد قراءتها لمخطوطة كتاب يحمل عنواناً غريباً هو (الكفر الحلو)، لكاتب من أصل اسكتلندي يعيش في هولندا اسمه (عزيز زاهارا) اعتنق الإسلام، وصار صوفياً متجولاً، ورأت البطلة (إيلا) في شخصية هذا الكاتب، بعد أن تعارفت معه بالبريد الإلكتروني في عام 2008، ما يشبه الصوفي التبريزي بحكمته وفلسفته تجاه الحياة والوجود، فلحقت به إلى قونية في الأناضول، معتقدة أنها وجدت فيه مرآتها، بعد أن أراها الفراغ في روحها.
}} يتناوب السرد في الرواية، مجموعة من الرواة، يتحدثون من زوايا متكاملة، لكنها تدور في شكل دائري، كما رقصات الدراويش، عبر لغة شاعرية، تملك قوة النفاذ إلى الروح البشرية وعبر بناء فني وجمالي أخَّاذ.
}} حكاية الدراويش، في رواية (إليف شافاق)، كانت وسيلة الكاتبة في محاولتها ترميم مآسي وزيف عالمنا المعاصر، وما فيه من دماء وبؤس وشقاء وكراهية وخواء روحاني. من خلال فكرة الاتساق مع المفهوم الصوفي، ووحدة الجوهر ووحدة الوجود.
}} قدمت الروائية، شخصية بطلتها على نحو مماثل لشخصية جلال الدين الرومي في تأثير التبريزي فيه، وجعلت بطلتها تكتشف أن التبريزي لم يمت منذ ثمانمئة سنة، إنما شخصيته وحكمته وفلسفته تتكرر في كل العصور، قد يكون ذلك المعشوق صديقاً أو معلماً روحانياً أو طفلاً تجب إحاطته بالحب.. إلخ.
}} المهم، هو أن تعثر على الروح التي تكمل روحك. وتشفي حزنك، وتعيش وفقاً لما يقوله قلبك... هكذا تحدثت بطلة الرواية، وهي تدور كدرويش حول نفسها، بعد أن دهمها الحب بغتة وبعنف، وقالت:
«تقول القاعدة الأربعون، لا قيمة للحياة من دون حب، لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي؟، إلهي أم دنيوي؟، غربي أم شرقي؟.. إلخ، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات، ليس للعشق تسميات، ولا علامات، ولا تعاريف، إنه كما هو، نقيّ وبسيط».
}} كل حيّ صائر إلى حتفه، هكذا حدث لهذه المرأة الأمريكية، بطلة الرواية، وهكذا حدث لشمس التبريزي، الذي سار في رحلة، يخبره حدسه، أن فيها نهايته، لكنه يبدأها، فتمتد رحلته من سمرقند وبغداد ودمشق إلى قونية، حيث يلقى حتفه على يد قاتل مأجور، لكنه قبل رحيله، حوَّل جلال الدين الرومي إلى صوفيّ عاشق.
}} ماذا لو كتب كل واحد منا.. مجموعة من القواعد الخاصة به، والتي يمكن أن يطلق عليها «القواعد الأربعون»؟.. ماذا لو كانت القاعدة الأولى، الكف عن الجري وراء الثروة والسلطة، ووراء أحلام مستحيلة؟
العالم يتحرك ويتغير بسرعة، والكون يدور بثبات واستمرار، لا أحد يستطيع التحكم بحركته.. سقطت بغداد بيد المغول في العام 1258، بعد أعوام هُزم المغول، كل منتصر يعتقد أنه سيظل منتصراً إلى الأبد، وكل مهزوم يميل إلى الاعتقاد بأنه سيكون مهزوماً إلى الأبد، لكنْ كلاهما مخطئ للسبب ذاته.. كل شيء يتغير إلا الله، هكذا يقول الصوفيون.. الذين جابوا الشوارع العربية وهم يقرعون الطبول ويعزفون المزامير، ويرقصون رقصة الدراويش، حينما مات صلاح الدين الأيوبي، لأن الأولياء والصالحين، في رؤيتهم، يدفنون هكذا.
}} ليس سهلاً أن يكون المرء درويشاً صوفياً في هذا الزمان.. أليس كذلك؟؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"