غزة.. مواجهة لم تنتهِ

02:39 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى

كثيرون لم يكونوا يؤمنون بأن واقع الصراع بين دويلة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة يمكن أن ينطوي على هذا القدر الكبير من التناقض والاختلاف. فالقوة التي تمتلكها الدولة العبرية ليست قدراً لا يمكن مواجهته. كما أن الانقسام الداخلي الفلسطيني لا يمنع تحقيق إنجاز حتى في قطاع غزة المحاصر والبائس. ولذلك فإن فشل العملية الأمنية «الإسرائيلية» في القطاع وما أعقبه من تصعيد أظهر أن مستوى الهشاشة في الجبهة الداخلية «الإسرائيلية» أكبر من التقديرات السائدة. كما أن الرد الفلسطيني من القطاع ومعانيه كان أقوى من الانطباعات التي خلقتها المعطيات السابقة.
قادت أحداث الأربعين ساعة التي تصاعد فيها القصف «الإسرائيلي» للمواقع العسكرية والأبراج السكنية في القطاع إلى أزمة سياسية عاصفة في الكيان قد تقود إلى انتخابات مبكرة. وأدت الخلافات حول سبل التعامل مع القطاع إلى استقالة وزير الحرب، أفيغدور ليبرمان من منصبه وإلى انسحاب وزراء «إسرائيل» بيتنا» من حكومة نتنياهو. كما أن الخلاف اللاحق بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس حزب «البيت اليهودي» نفتالي بينت حول منصب وزير الحرب فاقم الأزمة وأدخلها في نفق الانتخابات المبكرة.
ووجد الكيان نفسه، رغم التأييد الأمريكي الصريح، عرضة لانتقادات دولية وإقليمية بعدما تبين أنه في ذروة السعي للتوصل إلى تهدئة في القطاع تحول دون انفجار الوضع الإنساني فيه بادر إلى عمل عسكري أمني ثبت فشله. وأظهر هذا الفشل من ناحية عدم جدية الكيان في التوصل إلى التهدئة خلافا لما يوحي به في اتصالاته مع الوسيط المصري. وكادت العملية الأمنية الفاشلة في القطاع وما تبعها من تصعيد إلى توتير العلاقات «الإسرائيلية» - المصرية تؤدي إلى تفجير الوضع الأمني في الأراضي المحتلة عموما، واستغلت المقاومة في غزة الظرف الناشئ لترد بقوة على الغطرسة «الإسرائيلية» بفعل موحد ومنظم ومدروس دفعت «إسرائيل» إلى الارتباك في التعاطي مع الأمر.
فمن جهة احتدم النقاش في كل المستويات الشعبية والرسمية «الإسرائيلية» حول طريقة العمل المطلوبة. الجمهور «الإسرائيلي» بأغلبيته الميال لليمين أراد رداً من البطن: قصف جوي وبري وبحري وتهشيم رأس الفلسطينيين في القطاع. ووقف إلى جانب هذا الرأي الشعبويون داخل حكومة نتنياهو وعلى رأسهم وزير الحرب، ليبرمان، ووزير التعليم بينت وليسا وحدهما. وفي المقابل كان موقف نتنياهو ووزراء الليكود الذين أخذوا بموقف رئاسة الأركان والأجهزة الأمنية الذي حذر من التصعيد والانزلاق إلى حرب. وكانت حجة الأخيرين هي أن «إسرائيل» ليست بحاجة الآن إلى حرب مع قطاع غزة تشل مدنه وقراه ولا تحقق أية غاية سياسية راهنة. واستند هؤلاء إلى أن القطاع مشكلة تحتاج إلى التعامل بحكمة لأنه ليس هناك من هو على استعداد لإدارة الأمور فيه إذا ما سيطرت عليه القوات «الإسرائيلية».
غير أن حجة الأخيرين كانت تخفي شعورا بالعجز في التعامل مع القطاع ينطلق من معطيات أخرى بعضها يتعلق بالميل إلى إدامة الانقسام الفلسطيني وبعضها الآخر يتعلق بالثمن العسكري والسياسي والمعنوي لأي حرب جديدة على غزة. وليس صدفة أنه بعد يومين من إعلان وقف إطلاق النار المختلف عليه داخل الكيان نشرت صحيفة «يديعوت» وثيقة سرية كتبها قائد غرفة العمليات في الجبهة المركزية الجنرال ألوف مندس نشر فيها الغسيل القذر للجيش.
وأوضح التقرير حجم المعارك بين الجنرالات وتآكل القيم العسكرية والخوف من إبداء الرأي ونظريات العمل الخاطئة فضلا عن استشراء الفساد وإخفاء الأخطاء. ويؤكد هذا التقرير على ما سبق لمفوض شكاوى الجنود في الجيش، الجنرال اسحق بريك عندما طالب بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة للبحث في جاهزية الجيش «الإسرائيلي» للحرب. وجاءت هذه الدعوة في تقرير أعده هذا الجنرال تحدث فيه عن وجود أزمة خطيرة من شأنها أن تنعكس على قدرة الجيش كله، وخاصة الوحدات البرية، من حيث أدائه أثناء الحرب.
ولذلك ليس صدفة أن يحاول قادة الجيش، خلافا لتاريخهم الطويل في تأجيج الصراعات، الظهور بمظهر الحكماء ممن يمنعون الحرب. وتقريبا قادت تقاريرهم في المجلس الوزاري «الإسرائيلي» المصغر إلى ترجيح رأي المعارضين لتوسيع المواجهة مع قطاع غزة وإلى التوصل إلى اتفاق جديد لوقف النار. صحيح أن الجيش ومعه نتنياهو وأنصاره، عمدوا إلى الإيحاء بأنه تقف خلف سلوكهم هذا رؤية استراتيجية واستجابة لمطالب إقليمية ودولية، لكن الجلي هو أن الصورة أشد تعقيدا. فالصلابة التي أبداها الشعب الفلسطيني في القطاع، كما تبدت في مسيرات العودة وردود المقاومة، دفعت الكثيرين من قادة الاحتلال إلى إعادة النظر في موقفهم الأساسي المؤمن بأن ما لا يتحقق بالقوة لا يمكن أن يتحقق بمزيد من القوة. وصارت ردة الفعل الصاروخية من القطاع خصوصا ل«تل أبيب» ومحيطها تدخل في حسابات الربح والخسارة «الإسرائيلية».
ولا أدل على ذلك من تصريح وزير التعاون الإقليمي في حكومة نتنياهو، تساحي هنغبي، حينما ميز بين إطلاق المقاومة للصواريخ على مستوطنات غلاف غزة وإطلاقها للصواريخ على «تل أبيب» معتبرا أن «القصة مختلفة». وقال: إن الرد الصاروخي من غزة كان طفيفا لأن بوسع الفصائل الفلسطينية إطلاق مئات الصواريخ على «تل أبيب». وأثارت أقواله هذه انتقادات واسعة له ولحكومته وشجعت على خروج آلاف المستوطنين في تظاهرات ضد وقف النار مع القطاع.
في كل حال يحذر كثيرون من أن الإنجاز الذي حققته المقاومة، سواء بكشف القوة الأمنية الخاصة في خان يونس أو الرد الصاروخي المدروس، سيدفع «إسرائيل» إلى محاولة العمل مبكرا للثأر لنكسته. وهذا يتطلب من الفلسطينيين درجة عالية من الحكمة في التعاطي واستغلال ما جرى لتعميق الوحدة الداخلية وإيجاد حل لمسألة الانقسام. وثمة إيمان بأن الانقسام أضر بالقضية الفلسطينية كثيرا وأحدث شرخا في الهوية الوطنية وهو ما حاولت كل القوى القفز عنه أثناء المواجهة الأخيرة مع الاحتلال. وإذا ما تحقق ذلك فإن الإنجاز في غزة يغدو مضاعف التأثير داخليا وفي الكيان.
وفي ظل الحديث عن الانتخابات المبكرة في «إسرائيل» لا بد من الإشارة إلى أن تراجع شعبية نتنياهو بسبب غزة لا تشجعه على الإسراع في الذهاب إليها. وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن حوالي 70 في المئة من «الإسرائيليين» يؤمنون بعدم نجاح نتنياهو في التعامل مع القطاع. وكان كثيرون أشاروا إلى أن نتنياهو أميل إلى تبكير الانتخابات بسبب التحقيقات ضده بالفساد وليس بسبب غزة. ففي قضية الفساد يستطيع عرض نفسه كمظلوم فيما تجاه غزة لا يظهر أمام جمهوره إلا كمتخاذل.
عموما إن الأسابيع المقبلة تحمل في ثناياها الكثير من التطورات والتي ستكون بالغة التأثير على مجريات الأمور. وإذا كانت المواجهة الأخيرة في غزة قد ألهمت قيادتي «فتح» و«حماس» بالمصالحة وإنهاء الانقسام فإن ذلك سيكون إيجابيا. وإن أفلح نتنياهو في إدارة أزمته وتأجيل الانتخابات إلى موعد يريده فإن الأمور ستهدأ قليلا ولكن إذا أقرت الانتخابات المبكرة من المتوقع أن تنزلق الأمور نحو تصعيد خطر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"