الذاكرة.. أيقونة الإنسان ضد الفناء

عندما يمشي التاريخ على قدمين
04:29 صباحا
قراءة 7 دقائق

** محمد إسماعيل زاهر

الإنسان كائن ذو ذاكرة، ولا يمكن لحياة البشر البيولوجية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أن تستقيم من دون ذاكرة، ففي كل أوجه الحياة تحضر الذاكرة بقوة، لتحمي الوجود الإنساني في صوره المتعددة من الضياع. الذاكرة عماد الشعوب، وهناك تجليات عدة للتعبير عنها: التراث، العادات، التقاليد، الحكايات، الأساطير، الآداب، الفنون... إلخ. وكلها فضاءات للذاكرة، وهو الأمر الذي يدفعنا للقول: إن الثقافة بأكملها بصورة ما ذاكرة حية متحركة.
الذاكرة لا تقتصر على الماضي وحسب، ولكنها آنية، راهنة، متشوفة، أداة ضبط لسلام الفرد الداخلي وتصالحه مع ذاته، عندما يفقدها يتيه، وربما تتعرض حياته للخطر، الذاكرة وسيلة يدرك من خلالها المجتمع موقعه في العالم، وتساعده في توجيه بوصلته في المستقبل. ولمركزية الذاكرة وأهميتها الفائقة تتعرض للتوجيه والتزييف ومحاولات السرقة وربما المحو. وفي هذا الملف من «الخليج الثقافي» نلقي الضوء على تلك المفردة الخلابة والفاتنة (الذاكرة).. الأيقونة المتفردة التي نقاوم من خلالها الفناء، فالذاكرة في النهاية تساوي الحياة نفسها.

(1)

كل كتابة هي ذاكرة، حتى تلك الأعمال التي تتناول المستقبل، حيث يتوارى الحاضر، ويبدو الماضي بعيداً، ولكننا في النهاية ونحن نرسم سيناريوهات المقبل لا نستطيع التخفف من الذاكرة.
ربما يتأسس الأدب بأكمله على الذاكرة، في رواية «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي يرفض البطل جون الحياة في لندن المستقبل، تدور أحداث الرواية في عام 632 بعد فورد، كانت ذاكرة جون التي تحفظ بعض أبيات وحوارات من كتاب قديم عثر عليه ذات يوم في محمية الهمجيين يضم مجموعة من أعمال وليم شكسبير، طريقه لاكتشاف مشاعر إنسانية متعددة ومعقدة ومتداخلة، تختلف بالتأكيد عن الواقع المعلب ذي البعد الواحد، واقع المدنية فائقة الحداثة في لندن، حيث توصل العلماء إلى صناعة بشر شبه آليين لا يعرفون من الحياة سوى الفرح والمتعة والطاعة. بشر لا يقولون سوى نعم، وينفذون ما يطلب منهم من دون تفكير، ولا يعرفون معنى التضامن، لا أحلام لهم، ولا ماض يجمع بين خبراتهم وأحاسيسهم المشتركة، مسارهم كله مكتوب في المعمل ولا يمكن تغييره أو الفرار منه.
في النهاية يمتلئ جون بصوت الذاكرة، التي تخبره أنه في الماضي البعيد كنا نستمتع بالحرية، يحرك الصوت وجدانه، يندفع بقوة إلى داخل قلبه، يدفعه لكي يختبر إنسانيته، وإنسانيتنا معه، حيث «كنا» نصيب ونخطئ، نحب ونكره، نفرح ونحزن، نوافق ونتمرد..الخ، يترك جون لندن ويعيش في مكان منعزل حيث يذهب بعض سكانها المتحضرين للتفرج على ذلك الهمجي المفارق لحضارة «فورد». اختار جون إنسانيته.. حارب في سبيل الاحتفاظ بذاكرته ليتحرر من وضع مأساوي حيث البشر بلا ذاكرة، أو بذاكرة يمكن التحكم فيها عبر وسائل وطرائق عدة.
يقول هكسلي (1894-1963) ببساطة في روايته تلك إن الذاكرة هي الإنسان، وإنها تتناسب عكسياً مع التقدم العلمي.
على خطى هكسلي سار الكثير من الأدباء. في رائعته «1984» يدير جورج أورويل (1903-1950) عدة حوارات بين أوبرين عضو الحزب الحاكم والبطل ونستون سميث، كان الأول قد نجح في خداع الثاني وأقنعه أنه عضو في خلية سرية هدفها القضاء على «الأخ الأكبر»، ولم تلبث السلطات أن اعتقلت سميث ليكتشف حقيقة أوبرين المقرب من «الأخ الأكبر»، في تلك الحوارات التي صاحبها جلسات تعذيب مرعبة لسميث حضور مكثف للذاكرة بوصفها المعبرة عن الكرامة الإنسانية، فالهدف ليس إيذاء سميث جسدياً، أو حتى قتله والتخلص من صداع أعداء «الأخ الأكبر»، ولكن الهيمنة على الذاكرة الفردية والجماعية، من خلال تعديل إيماننا بالماضي وبكل ما مر بنا واقتنعنا به ليتوافق مع إيديولوجيا «الأخ الأكبر».
يبدأ غسيل ذاكرة سميث بإيهامه بمشاعر متناقضة تجاه أوبرين، فهو معذبه ولكنه أيضا صديقه وحاميه من الموت المحدق به، وببطء يمحو أوبرين مشاعر سميث السلبية تجاهه، وبالأساليب نفسها يمحو جوليا، حبيبة سميث من ذاكرته، ويدفعه لكي يشي بها، لم يكن حلم أوبرين تعديل ذاكرة سميث فقط، ولكن جميع من يعارض «الأخ الأكبر»، فنظامه لا يسمح بشهداء أو أبطال يقتلون في سبيل الحرية تحتفظ الذاكرة بأفعالهم وتردد حكاياتهم الأجيال المقبلة بما يؤدي إلى استلهامهم وتكرار تمردهم، وإنما المشروع الكبير لهذا النظام هو ابتكار ذاكرة جديدة تؤيد الأخ الأكبر، وتحبه وتدين له بالولاء، ولذلك يختم أورويل روايته/‏ كابوسه على لسان سميث بالقول: «ها أنا ذا انتصرت على نفسي وغدوت أحب الأخ الأكبر».
إذا كان جون اختار أن يعيش في مكان معزول، وضحى بكل شيء ليكون وحيداً مع ذاكرة معذبة، وإذا كان سميث قد هُزم تحت ثقل التعذيب ليتخلى عن ذاكرته، فإن جاكوب مانديل بطل قصة ستيفان زفايغ «بائع الكتب القديمة» قد مات بعد أن حُرم من ذاكرته، لا حدود لمعارف مانديل، الأكثر اطلاعاً في النمسا كلها كما يصفه الراوي، يذهب إليه جميع الكتاب والباحثين. الشعراء والمفكرون، الفقراء والنبلاء، ليعرفوا منه عناوين الكتب التي تفيدهم في كتاباتهم ودراساتهم، ذاكرته ببليوغرافيا حية، يحفظ اسم الكتاب ومكان طباعته، وسنة صدوره وعدد النسخ المطبوعة منه، وكيف يمكن الحصول عليه. رجل يذكرك بالقارئ الموسوعي المثالي، أو الخيالي الذي لم يوجد يوما، هو حلم بورخيس مجسداً على الأرض، يجلس كل يوم في المقهى ليقرأ، ولا يدخل في حوارات جانبية مع أحد، كان يتوحد مع كتابه في حالة أشبه بالعبادة، حتى أنه كان ينتبه إلى سؤال أحدهم عن كتاب ما بصعوبة، ولم يكن يقرأ الصحف، ولا يعرف أن الحرب العالمية الأولى قد اندلعت، وفي أحد الأيام القت السلطات القبض عليه لأنه كان يراسل ناشرين في إنجلترا وفرنسا لسؤالهم عن كتب يترقب صدورها، يظل في السجن لمدة عامين من دون كتبه، حتى يتوسط له أحد النبلاء لكي يفرج عنه، وعندما يغادر سجنه يتحول إلى إنسان آخر: بائس، مرهق، تائه النظرات، أشبه بمجنون، حاول مرة أخرى أن يقرأ ولكنه ما أن يفتح الكتاب حتى يغفو، فقد ألقه ولم يلبث أن مات بعد عدة شهور بعد أن سُلبت منه ذاكرته.

(2)

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تأسست حزمة من العلوم لا هم لها إلا النبش في ذاكرة الشعوب، أو اكتشافها، وربما إعادة تدوينها، فالأركيولوجيا والانثربولوجيا والاستشراق والبحث في الفنون والآداب القديمة.. سعت جميعها إلى إعادة كتابة الماضي: المنقوش على الأحجار وفي المعابد، المرسوم في الكهوف والمخزن في المدن والقرى المدفونة، المدون أسفل التماثيل وعلى شواهد القبور، المخطوط في الأوراق والبرديات السحيقة، المتحرك في عادات وتقاليد البشر، المرئي في الأزياء والاحتفالات والمواسم والطقوس، المتذوق والمشموم في الأطعمة الشعبية، المحكي في الحكم والأمثال، الحي في القيم والأديان والكتب السماوية...فمن كل هذه الفضاءات وغيرها الكثير تشكلت ذاكرة الآخر المغاير للذات الغربية، التي تعاملت معها تلك الذات كما فعل أوبرين مع سميث، كان الهدف إعادة تشكيل مفاصل تلك الذاكرة حتى يمكن ثقبها ومن ثم محوها، وتأسيس ذاكرة جديدة تبصر ماضيها وحاضرها بعيون غربية، بل تحب ذلك الغرب نفسه وتتغنى بعشقه.
الذاكرة في مكاننا هذا، احتفت دوماً بالمقاومة والسير البطولية، ذاكرة للضمير والسخرية التي ترفض المهادنة أو المساومة، ولا تعرف التبرير أو الأعذار، ولا المناورات والصفقات التي تتم من تحت الطاولة، ولا تعترف بالهزائم والانكسارات والأمر الواقع، ذاكرة ثقيلة دائماً لا تنسى حقها، أو من ظلمها يوماً.. ذاكرة تتنقل من جيل إلى آخر ومن لسان إلى أذن، ومن هنا ديمومتها وأهميتها، والسعي الدائم للهيمنة عليها ليس من خلال الكتب والإعلام ووسائل الدعاية المختلفة، ولكن عبر مختلف مفردات الحياة.. مأكل وملبس وأساليب عيش وسلوك مختلفة، لم يكن الصراع يوماً على أرض أو أفكار أو رموز تاريخية، فكل هذا يبقى في إطار النخب، ولكنه كان صراعاً حول البشر.. حول الذاكرة.

(3)

الذاكرة أوسع من التاريخ، أو هي تاريخ متحرك. الذاكرة ساخنة ومتقدة، أما التاريخ فجاف وبارد، الذاكرة إنسانية، أما التاريخ فمفكرن، ومن هنا أهمية الآداب والفنون، بل ومدارس التأريخ الجديدة، التي تحاول أن تجعل التاريخ يتحرر من رسميته ويمشي على قدمين بعد أن كان يسير على رأسه، فخزان الذاكرة يستوعب المهمشين، يتجاور فيه الحكام والملوك مع المتمردين والصعاليك، الأصحاء والأقوياء والأبطال مع المرضى والمنبوذين والمحكومين، نشاهد فيه المبتكرين والمهندسين والمخترعين مع العمال والبناءين، قواد الجيوش مع الجنود، الروائي مع المروي عنه، الضحية مع الجلاد.. الخ.
الذاكرة أكثر تعقيداً من مجرد اعتبارها مفردة نقيضة للنسيان، فالنسيان يعبر عن المهمل والمتروك وغير الملتفت إليه أو محتفى به، أو هو حالة هروبية من ذكرى مؤلمة، أو وسيلة مقاومة نفسية لإقامة سلام مع الذات أو الآخرين والواقع المحيط، أو بداية لحياة جديدة. الذاكرة قوة.. نشاط.. تحفز دائم، ترفض الهروب والإهمال، ومن هنا إيجابياتها وسلبياتها وتجاوزها لفكرة النسيان.
الذاكرة فضاء يحيط بنا من الجهات كافة، ليست مخزنة على نحو آلي في المخ البشري، فإذا تأملنا حواسنا المختلفة، نجد لكل منها ذاكرة مستقلة، للبصر والشم والتذوق والأذن، واللمس، وللكلمات ذاكرة وللصمت، وللمعاني ذاكرة أيضا، ولكل المشاعر ذاكرة نستعيدها في لحظات ما ربما نتشارك تلك المشاعر المستعادة مع آخرين وربما ننعزل بها بعيداً عن العالم بأكمله، نستمتع بها أو نجلد ذواتنا ونمارس مازوخية خاصة، وحتى اللاوعي يخزن بعض أفكار وأحاسيس لا نتصور في لحظات فارقة في حياتنا أنها كانت موجودة أو كامنة بداخلنا، ومن هذا اللاوعي الفردي يولد اللاوعي الجمعي.
الذاكرة لا تحيل إلى الماضي كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، هي الحاضر دوما، أفق متحرر من الزمان بمفهومه الخطي، دورة متجددة بالحياة يعيشها الإنسان كما عناصر الطبيعة. الذاكرة تحفظ وجودنا الهش والخاطف من الفناء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"