ملامح من الوطن ... بدع بنت سعود . . العصر الحديدي حاضر في الإمارات

ملتقى للقوافل منذ 3000 سنة
05:20 صباحا
قراءة 6 دقائق

في مدينة العين ثمة منطقة تم الكشف عن بعض المباني التراثية السكنية وربما التجارية المبنية من الطين واللِبن فيها، كذلك تم العثور في هذا الموقع على عدد من الجرار الفخارية بأحجام مختلفة يعود تاريخها إلى نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، بعدها أصبحت بدع بنت سعود أشهر من نار على علم عند الآثاريين ومحبي الاكتشاف نظراً للكنوز الزاخرة في أراضيها، والتي تظهر يوماً بعد آخر خلال عمليات التنقيب لتقدم مدلولات تاريخية غاية في الأهمية عن تاريخ الإمارات وحضارة الإنسان فيها .

تقع منطقة بدع بنت سعود على بعد 15 كلم شمال العين، ومن أبرز معالمها مرتفع صخري يعرف باسم قرن بنت سعود الذي يصل طوله إلى نحو 40 متراً، والمتميز بإطلالته على المناظر الطبيعية المحيطة، ومنذ عام ،1970 تم العثور على العديد من القبور المبنية فوق هذا المرتفع والتلال المحيطة به . ورغم صغر مرتفع قرن بنت سعود، فإن لديه العديد من أوجه التشابه مع جبل حفيت وتمكن مشاهدته من مسافة بعيدة . وفي أسفل القرن، تم العثور على قبور يعود تاريخها إلى 3000 سنة قبل الميلاد، وهي مماثلة لتلك الموجودة في جبل حفيت من حيث إنها غرف دائرية الشكل يتم الدخول إليها من خلال منفذ ضيق عبر جدار دائري محيط . وفي الأصل، كانت الجدران تميل تدريجياً باتجاه الداخل لتشكل سقفاً في شكل قبة على أعلى المرتفع الصخري، وتوجد مجموعة من القبور التي تعود إلى العصر الحديدي (1300 إلى 300 سنة قبل الميلاد تقريباً) . وتتميز معظم هذه القبور كذلك بالشكل الدائري لكنها أوسع ومقسمة إلى عدد من الغرف صُممت للقبور الجماعية . وقبل عدة قرون، تعرّضت هذه القبور للنبش من قبل لصوص الآثار حيث تم العثور على الهياكل العظمية مبعثرة وفي حالة سيئة . ومع ذلك، تمكنت الفرق الآثارية من العثور على فخاريات وأوانٍ حجرية وأنصال خناجر ورؤوس سهام برونزية، إلى جانب أنواع عديدة من الخرز .

وفي أواخر العصر البرونزي، أدت التطورات التكنولوجية إلى صناعة سيوف ذات حدين يصل طولها إلى 40 سم . وقد أدّت حفريات أجريت في إحدى المقابر الجماعية على المرتفع إلى العثور على بعض السيوف من هذا النوع . وكان سكان العصر الحديدي يصنعون الأواني الحجرية الخفيفة ويتاجرون بها، حيث تضمنت المكتشفات أواني وأقداحاً مزخرفة وعلباً وصناديق متعددة .

نظام الأفلاج

وعلى بعد بضع مئات الأمتار غرب المرتفع الصخري، توجد بقايا مبنى كبير من الآجر الطيني كان على ما يبدو مجلس رئيس القبيلة أو قاعة للاجتماعات . ويشتمل المبنى على قاعة واسعة وقواعد حجرية لاثني عشر عموداً استعملت كدعائم للسقف . وتوجد خارج المبنى غرف لتخزين المؤن كانت تحتوي على جرار التخزين، وهذا ما يدّل على أن عملية توزيع المياه كانت تتم في هذا المبنى .

وإلى جنوب المبنى، كشفت الحفريات عن فلج أو قناة مياه جوفية مكوّنة من عدد من الأعمدة الحجرية المرتبطة بنفق أفقي يجري باتجاه سفح التل . كما هناك سلم يؤدي إلى الشريعة، وهي عبارة عن فتحتين لنفقين منفصلين يوفران منفذاً لتحصيل المياه في حاويات قابلة للنقل . كما تم اكتشاف فلج آخر وصهريج واسع ومفتوح يُزّود بالمياه بواسطة الشريعة .

كان الاعتقاد السائد طوال سنوات أن أصل نظام الفلج يعود إلى بلاد فارس، لكن هذا الاكتشاف واكتشافات مماثلة في منطقة هيلي، أكدت أن أصله من جنوب شرقي الجزيرة العربية ويعود إلى نحو ثلاثة آلاف سنة خلت . ويعتبر نظام الأفلاج وسيلة متطورة جداً لجلب المياه من مسافات بعيدة من الموارد المائية الوفيرة في المناطق الجبلية بغرض توفير مياه ري المزروعات وتأمين مياه الشرب للمجتمعات السكنية .

وقد اكتشفت الفرق التابعة لإدارة الآثار والسياحة في مدينة العين موقعاً من العصر الحجري يعود تاريخه إلى أكثر من ستة آلاف عام يقع شمال مدينة العين، إضافة إلى مواقع أخرى من العصر الحديدي . هذا وكانت أعمال موسم المسح والتنقيب للعام 2001- 2002 تضمنت مسوحات أثرية للمناطق الكائنة شمال مدينة العين والتنقيب في التلال الموجودة حول المنطقة الأثرية في وادي الحمام التي يرجع تاريخها إلى العصر الحديدي، كما اشتملت على عمليات إنقاذية طالت إحدى المدافن القديمة التي سبق التنقيب فيها من قبل . ونظراً لأهمية تلك المواقع سواء التي ترجع إلى العصر الحجري أو الحديدي تم تسجيل تلك المواقع وتثبيتها على الخرائط وتسجيلها من أجل المحافظة عليها، حيث إن هناك خطة لاستئناف عمليات المسح والتنقيب في تلك المناطق في المواسم المقبلة .

مستوطنات بشرية

طبيعة تلك الاكتشافات تشير إلى أنها عبارة عن جزء من مستوطنات لتجمعات بشرية كانت قائمة منذ العصور الحجرية وتحديداً الألف الخامسة قبل الميلاد، وقد تم التعرف إلى إحدى هذه المستوطنات من خلال الآلات الحجرية وخاصة رؤوس السهام التي كان يتم تصنيعها من حجر الصوان المتوافر في أماكن كثيرة ولاسيما الجبلية منها، ويبدو أن موقع العصر الحجري الذي تم اكتشافه من قبل فريق محلي تابع لإدارة الآثار والسياحة سابقاً، كان أقرب إلى ورشة لصنع الآلات الحجرية وقد استدل على ذلك من خلال العدد الكبير من السهام الحجرية، غير المكتملة الصنع والأهم أن اكتشاف هذا الموقع يضيف دليلاً على أن حقبة الألف الخامسة قبل الميلاد التي مرت بها دولة الإمارات قد شهدت حركة في تنقل البشر من مكان لآخر، واتصالاً دائماً بين سكانها كما يستدل على ذلك من العدد الكبير لمواقع تلك الفترة التي تكتشف بين الحين والآخر، وكذلك يستدل على أن الكثير من مواقع تلك الحقبة التي يتم اكتشافها اليوم في مناطق صحراوية قاحلة تحيط بها كثبان رملية، كانت في الأصل تقع على مقربة من بحيرات وبرك مياه جفت فيما بعد، أو على ضفاف الخيران وحواف الوديان وسفوح الجبال .

ويشير خبراء الآثار إلى أن هذا الموقع قد أعيد استيطانه مرة أخرى في فترة لاحقة، حيث تم اكتشاف دليل على استعماله من قبل أهل العصر الحديدي الذين عاشوا قبل ثلاثة آلاف عام، ومن حقبة العصر الحديدي تم اكتشاف الكثير من الكسر الفخارية وبقايا مواقد النار، كما أن التنقيب في هذا الموقع قد يكشف عن أفران لصهر النحاس أو صنع الفخار، وبناءً على اللقى الأثرية التي تم جمعها من السطح فإن لهذا الموقع أهمية كبيرة لاعتباره امتداداً لمواقع العصور الحجرية باتجاه الشمال، ويمكن اعتباره حلقة وصل بين المواقع التي تعود إلى العصر الحجري الموجودة على السواحل ومواقع العصر نفسه الموجودة في الواحات الداخلية والمناطق الجبلية، وأن أهميته تتمثل في حقيقة أنه يضيف موقعاً جديداً إلى الخريطة الأثرية لمواقع العصر الحديدي، بل ونقطة على طريق القوافل الذي كان يربط المنطقة الشرقية من إمارة أبوظبي بالإمارات الشمالية .

وادي الحمام

أما في وادي الحمام فقد تم التنقيب في بئر الماء التي تم اكتشافها في موسم الحفريات، وتم التأكد من عمقها البالغ ستة أمتار ونصف المتر تحت مستوى أرضيات المباني التي ترتفع زهاء مترين عن المستوى الأصلي للأرض، في دلالة على أن المياه الجوفية كانت قبل ثلاثة آلاف عام أعلى من المستوى الطبيعي الذي كانت عليه قبل نحو خمسين عاماً، وأن التنقيب في وادي الحمام كان قد كشف عن بيتين من اللِبن والطين يدل وجودهما على أن هذه المنطقة التي تمثل نقطة اتصال بين منطقتي الهيلي وبدع بنت سعود كانت مسكونة قبل ثلاثة آلاف عام .

كما تم اكتشاف موقعين آخرين من العصر الحديدي أحدهما في منطقة بدع بنت سعود والآخر إلى الشمال منه، يتمثل الأول في اكتشاف كسر من أواني فخار ذلك العصر وكذلك ختم منبسط من الحجر ودمية غير كاملة لجمل أو ناقة، أما الموقع الثاني فقد تبين أنه يغطي منطقة واسعة تغطيها كميات كبيرة من كسر الفخار ورأس دمية صغيرة من الفخار على شكل كبش حيث تشير هذه الاكتشافات إلى العمق الحضاري الذي تتمتع به دولة الإمارات وتواصل الأقوام البشرية فيها، إذ إن كتابة التاريخ القديم للدولة لا يمكن أن تتم إلا من خلال تفسير المكتشفات والقرائن الأثرية، خاصة في ظل غياب النصوص الكتابية التي تساعد الباحث على التعرف إلى الأجناس البشرية ومسميات الشعوب، والجميل أن منطقة بدع بنت سعود التي تشتهر برمالها الجميلة تتحول فور سقوط الأمطار إلى ملتقى للعائلات التي تخرج للتمتع بجمال الطبيعة وممارسة ركوب الدراجات والسيارات، إضافة إلى متابعة مشهد مياه الأمطار وهي تجري في شعاب صغيرة، كما تحتضن المنطقة قرية العين التراثية التي أقامتها البلدية للاحتفاء بمناسبات عائلية واجتماعية متنوعة، أما التطوير فيتضح في كل مكان من أرجاء المنطقة التي تحولت من القديم إلى الجديد وصارت مقراً لأجمل التصميمات العمرانية للمنازل التي يتنافس المواطنون في تشييدها، وكذلك خدمات البنية التحتية التي تنفذها البلدية والجهات الأخرى، إضافة إلى تشييد الطريق الدائري الذي يربط المنطقة بطريق العين دبي السريع بالمطار وسائر المناطق الأخرى .

هذه المنطقة معروفة اليوم بين الزوار وتستوجب زيارتها، لاسيما قبل غروب الشمس للاطلاع على مواقعها الأثرية والاستمتاع بالغروب . ويمر الطريق الأسفلتي الجديد عبر الكثبان الرملية الحمراء اللون وهي لا تزال ذات منظر جميل على رغم التغيرات الحديثة في البيئة المجاورة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"