علماء الفتوى في العالم الإسلامي يواجهون «فوضى الإفتاء»

04:05 صباحا
قراءة 8 دقائق
شهدت القاهرة خلال الأيام الماضية حراكاً إسلامياً فاعلاً من خلال تلاقي كبار علماء الإفتاء في العالم الإسلامي في المؤتمر الدولي للأمانة العامة لدور ومؤسسات الفتوى في العالم الإسلامي الذي شهده علماء وباحثون في الإفتاء يمثلون 80 دولة من مختلف قارات العالم لبحث وسائل وأدوات التكوين الفكري والثقافي للمفتين في مناطق الأقليات الإسلامية لمواجهة جماعات التطرف والتشدد والتكفير التي تسربت إلى أوروبا وأمريكا وأفسدت على المسلمين هناك مناخ الأمن والاستقرار، ودفعت عددا من البلاد الغربية إلى اتخاذ إجراءات واتخاذ مواقف تحد من حرية المسلمين، كما دفعت قوى التطرف المعادية إلى ممارسة عنف ضد المسلمين ومؤسساتهم الدينية.
المؤتمر الذي استمر ليومين نجحت الإفتاء المصرية بقيادة المفتي د. شوقي علام في حشد نخبة من كبار المفتين به، وشهد مصارحة من شيخ الأزهر د. أحمد الطيب بأوجه القصور التي تعاني منها مؤسسات الفتوى في العالم الإسلامي، لذلك كانت مناقشاته أكثر مصداقية، وشهد رغبة من جميع مسؤولي الفتوى في التطوير وعلاج أوجه القصور.
وهنا أبرز ما شهده المؤتمر من مناقشات وما انتهى إليه علماء الفتوى من توصيات:

في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر انتقد د. أحمد الطيب، مؤسسات الفتوى الرسمية، مؤكداً أن جماعات التطرف الديني نجحت في نشر ما سماه «الفقه العَبَثيِّ» الذي يطرُقُ أسماعَ الناس ليلًا ونهارًا، وتقف خلفه كتائب موازية من المُفتينَ؛ نَجَحوا في أن يتغلَّبوا على كثيرٍ من دُورِ الإفتاء في عالَمِنا العربيِّ، بل على كلِّ مَجامِعِ الفقهِ والتشريعِ، وأوَّلُها مَجمَعُ البحوثِ الإسلاميةِ في الأزهر.. موضحا أن نجاح الفكر المتطرف لم يكن بسبب عقلانيّتَهِ أو يُسرِه، أو قُدرتِه على جعلِ الحياةِ أيسرَ ممَّا هي عليه، وإنَّما يرجع نجاح المتطرفين إلى قدرتهم على التحرك والنزولِ إلى الناسِ بدُعاةٍ وداعياتٍ، ودُخولِ البيوتِ في القُرى والكُفُور، عِلاوةً على اعتلاءِ بعض المنابرِ، والتحدُّثِ إلى الناسِ بما يُريدون، في الوقتِ الذي ظلَّت فيه فتاوى دُورِ الإفتاء، وفتاوى المَجامِعِ ولجانِ البحوثِ الفقهيةِ، فتاوى فرديَّةً راكدة، قاصرةً على المُستفتي، أو حبيسةَ مُجلَّداتٍ عِلميَّةٍ لا يفيد منها ملايين الجماهير من المسلمين.

وأشار شيخ الأزهر إلى أن جمود الفتوى، وتهيّب الاجتهاد، والعجز عن كسرِ حاجزِ الخوفِ من التجديدِ؛ تسبب في كثير من المعاناة الاجتماعية والنفسيةِ للمسلمين في البلاد العربية كافة، وطالب العلماء بكسر حاجز الخوف ومواجهة المشكلات الاجتماعية الناتجة عن قصور في فهم تشريعات الإسلام، مستشهدا بالتطبيق الخاطئ لتشريع تعدد الزوجات وغير ذلك من الأمور التي فهمت خطأ وطبقت في حياتنا العملية تطبيقا خاطئا انحرف كثيرا عن فلسفة التشريع الإسلامي.

وأكد شيخ الأزهر أننا نعيش أزمة حقيقية يدفع المسلمون ثمنها غاليا حيثما كانوا وأينما وجدوا، نتيجة الخوف والإحجام عن التعامل مع الشريعة التي نصفها بأنها صالحة لكل زمان ومكان، لتقديم إجابات مناسبة لنوازل وواقعات مستجدة، وأيضا نتيجة غياب الرؤية المقاصدية التي تشوِّش حتماً على النظرة الاجتهادية، وتأخذ الفقيه بعيدًا عن الحادثة التي يبحث في محلها عن الحكم الشرعي المناسب.. وأيضا نتيجة انتشار «فتاوى معلبة» ومستوردة عابرة للدول والأقطار، ولا تراعي أحوال المجتمعات، ضاربة عرض الحائط باختلاف الأعراف والعادات والثقافات واللغات والأجناس، حتى صارت الفتوى الواحدة يُفتى بها للمسلم مهما اختلفت دياره وتنوَّعت أوطانه وتبدَّلت أحواله من حربٍ وسلامٍ وغنى وفقر وعلم وجهل، فهل يُعقَل أو يقبل أن يُفتَى للمسلم بفتوى واحدة في النوازل المتشابهة من حيث الشكل والمختلفة من حيث الواقع واحتمالات الضرر والمصلحة في القاهرة ونيامي ومقديشو وجاكارتا ونيودلهي وموسكو وباريس وغيرها من الحواضر والبوادي في الشرق والغرب؟!

دين يسر ورحمة

مفتي القدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد حسين، أكد ضرورة أن يبذل علماء الفتوى في العالم جهودا مضاعفة لتجسيد سماحة الإسلام ويسره وقدرته على قيادة المسلمين في عالم اليوم إلى حياة مستقرة آمنة.. موضحا أن دور مؤسسات الفتوى يتعالج في عالم اليوم، خاصة بعد أن اختطفت جماعات التطرف والتشدد الديني فصائل من الشباب المسلم وانحرفت بهم عن طريق الإسلام الصحيح.

وأوضح الشيخ محمد حسين أن الشريعة الإسلامية لا تعرف الجمود، كما أنها لا تعرف الشطط والانحراف فهي توجه دائما إلى المصالح الحقيقية للمسلم في أي مجتمع يعيش فيه.. مؤكدا أن الذين ينحرفون بالفتوى عن طريقها الصحيح ضالون مزورون، شريعتنا الإسلامية تواجههم وتكشف انحرافاتهم الفكرية وجهلهم بالإسلام.. وهذا ما ينبغي أن يبذل فيه علماء الإسلام جهودا مضاعفة لكشف جماعات التشدد الديني للناس، وطالب مفتي القدس بضرورة الاهتمام بالدعوة الإسلامية والإفتاء في البلاد ذات الأغلبية غير المسلمة، مؤكدا أن المسلمين في هذه البلاد صاروا سفراء للإسلام، مهمتهم نقل الصورة الصحيحة والصادقة عن ديننا العظيم لغير المسلمين، وفي الوقت نفسه مواجهة جماعات التطرف والتشدد الديني التي تجعلهم في مرمى أهدافهم الخبيثة.

احذروا جماعات الضلال

مفتي مصر، د. شوقي علام، الأمين العام لدور ومؤسسات الفتوى في العالم، يؤكد ضرورة إيجاد منظومة علمية وتأهيلية للقيادات المسلمة في العالم، يكون من شأنها تجديد منظومة الفتاوى التي يستعين بها المسلم على العيش في وطنه وزمانه، كما ترسخ عنده قيم الوسطية والتعايش، وتعمل أيضا على تأصيل الرباط بين الأئمة والدعاة وبين العلماء الثقات والمؤسسات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي.

وحذر مفتي مصر المسلمين في كل مكان من الانخداع بفكر وتوجه جماعات الضلال التي تنتسب زورا وبهتانا إلى الإسلام وترفع لافتات إسلامية وهي أبعد ما تكون عن الإسلام.. مؤكداً أن الدين الإسلامي ليس حكراً على جماعة أو تنظيم، وإِنَّما هو رحمة الله للعالمين أجمعين وهو الجامع لأبناء الأمة كافة تحت مظلة الأمة الواحدة الحاضنة.. وشدد على ضرورة جمع صفوف الأمة بعيدا عن المذهبية الضيقة ومحاولات الوقيعة بين المسلمين.. مشيرا إلى اتفاق علماء المسلمين على أن المذاهب الإسلامية مظهر لرحمة الله تعالى بخلقه ما تمسك أصحابها بأدب الاختلاف وأصوله. وتعهد د. علام باعتباره أميناً عاماً لدور ومؤسسات الفتوى في العالم بقيام العلماء بالواجب الذي يمليه عليهم مسؤولياتهم، وتصحيح الصور المغلوطة عن الإسلام ومبادئه والحفاظ على صورة الدين من أن يتخطفها التطرف من أي جانب، وقيامًا بالدور الريادي والتاريخي الذي التزمت به دور وهيئات الإفتاء في العالم.

حاجة العالم إلى الإسلام

د. مصطفى سيرتش رئيس مجلس علماء البوسنة المفتي السابق، يؤكد ضرورة أن يتلاقى علماء الفتوى في العالم لمواجهة التحديات الفكرية والثقافية التي تواجه المسلمين، والرد على محترفي الفتاوى الشاذة في كل مكان، والدفاع عن وسطية الإسلام واعتداله.. مؤكدا خطورة ترك التيارات المتطرفة لتكرس فكرة أن العالم ضد الإسلام جَرًّا للمسلمين للدخول في مواجهات مع الآخرين تحت شعارات دينية، وهي مواجهات يرفضها الإسلام، حيث يفرض على المسلمين حالة من التعايش السلمي واحترام عقائد المخالفين لهم في العقيدة.. وقال: إذا كان الإسلام يجعل بين المسلم وأخيه المسلم رباطًا من الأخوة الإسلامية، فهو يجعل بينه وبين كل إنسان رباطًا من الأخوة الإنسانية.

وأكد العالم البوسني أن العالم يحتاج بالفعل إلى عدالة الإسلام ورحمته.. مؤكداً أن ديننا العظيم ينشر الأمن والسلام والسكينة ويرفض ويدين كل صور التعصب ونفي الآخر، كما أكد ضرورة مواجهة ثقافة الكراهية ضد الإسلام في الغرب بنشر تعاليم وأحكام ديننا لأنها الكفيلة بالرد على هؤلاء الذين يفهمون توجهات ديننا وتعاليمه فهماً خاطئاً بفعل التضليل الإعلامي الغربي والموروث الثقافي الذي يركز على تشويه صورة الإسلام.

تأهيل الدعاة للإفتاء

مفتي نيجيريا، الشيخ إبراهيم صالح الحسيني، يؤكد ضرورة تأهيل الدعاة وخطباء المساجد في العالم، خاصة في المجتمعات الإفريقية، لتكون لهم قدرة على الإفتاء ونقل أحكام الإسلام الصحيحة للجماهير.. ويقول: المجتمعات الإفريقية اخترقت معظمها جماعات التطرف والضلال، ولكي نواجه انحرافاتهم لا بد من جيل جديد من الدعاة وخطباء المساجد تكون لهم قدرة على الإفتاء ومواجهة الفتاوى الشاذة والمنحرفة التي يرددها هؤلاء.

وأوضح مفتي نيجيريا أن التحديات التي تواجه الإسلام في المجتمعات الإفريقية كثيرة وتفرض على مؤسسات الدعوة والإفتاء الكبرى في العالم الإسلامي نصرة إخوانهم في هذه البلاد وحمايتهم من فتاوى المتطرفين والتكفيريين بإرسال علماء مؤهلين للفتوى إلى ديارهم وتدريب الدعاة الأفارقة على الفتوى في المؤسسات الإسلامية الكبرى، وفي مقدمتها الأزهر ودار الإفتاء المصرية.

علاج جراح الأمة

وكيل الأزهر، الأمين العام لهيئة كبار العلماء، د.عباس شومان، أكد ضرورة أن يتلاقى كبار علماء الفتوى في العالم الإسلامي من وقت لآخر لمناقشة التحديات التي تواجه جماهير المسلمين ومواجهة أصحاب الفتاوى المتشددة التي ساهمت في تشويه صورة الإسلام والمسلمين.. موضحاً أن الأمة الإسلامية تعاني جروحاً مؤلمة نتيجة انتشار الفتاوى المتشددة من غير المؤهلين والمتخصصين، واصفا ذلك بالطامة الكبرى التي يجب أن تتم مواجهتها سواء بالتشريعات أو من خلال العلماء المتخصصين، مطالبا من يتصدى للإفتاء بغير علم بأن يبتعد عن هذا الطريق رحمة بنفسه من عقاب الله تعالى.

وطالب وكيل الأزهر بضرورة الاستفادة من النماذج المشرفة في التاريخ الإسلامي من عهد الرسول والصحابة والتابعين والفقهاء، لتوضيح الأحكام التي تساعد على مواجهة التشدد في الفتوى وتؤكد التيسير، داعيا إلى ضرورة الاستفادة من النصوص الشرعية وعدم إعمال العقل في المسائل المحسومة بالنصوص الشرعية.

أبرز التوصيات

وبعد مناقشات استمرت يومين، وورش عمل شارك فيها العديد من علماء وباحثي الفتوى، انتهى المؤتمر إلى العديد من التوصيات أبرزها:

}} التعامل مع الوجود الإسلامي في البلاد غير الإسلامية على أنه جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي لتلك البلاد لهم الحقوق كافة وعليهم الواجبات كافة، وأن تمثل الجاليات المسلمة في العالم حلقة وصل للحوار الحضاري والتواصل الثقافي والفهم والاستيعاب المشترك مع العالم الإسلامي.

}} اتخاذ جميع الإجراءات لحماية الجاليات المسلمة في الغرب من استغلال كيانات الإسلام السياسي المنتشرة هناك، وإمدادهم بما يعينهم على نبذ كل صور الخروج على الإسلام، وتفهم الشعارات الزائفة التي ترفعها العناصر المتطرفة في المجتمعات الغربية.

}} تكامل الجهود التي تبذلها دور وهيئات الإفتاء في شكل منضبط ومنظم للمساهمة في تصحيح الصورة والمفاهيم المغلوطة المشوهة، ومن ثم تخفيف ما لحق بالإسلام من عداء وتشويه تقوم به الجماعات المتطرفة.

}} التعاون مع المؤسسات العالمية الهادفة إلى الخير والسلام في تحقيق الأهداف الإنسانية بما يجسد رسالة الإسلام ويقف ضد المشوهين لرسالته، ونشر المواقف الحضارية للإسلام وعدالة وموضوعية أحكامه انطلاقا من أن الفتوى الصحيحة هي أداة مهمة في تحقيق استقرار المجتمعات وتعزيز السلم بين أفراده، وأن الفتوى التي تصدر من غير المتخصصين تسبب اضطرابًا كبيرًا في المجتمعات.

}} العمل على أن تصبح المراكز الإسلامية في بلاد العالم حلقات للتواصل الحضاري والتبادل المعرفي وجسورًا للتعاون بين المسلمين وغيرهم بكل الوسائل المتاحة، التي من أهمها: إحياء دور المراكز الإسلامية الوسطية ودعمها علمياً وإفتائيًا.. والمسارعة إلى العناية بتقريب الفقه الإسلامي المعاصر للجاليات المسلمة حول العالم عن طريق تقديم الحلول الشرعية المناسبة، وترجمة الفتاوى المناسبة لأحوال المسلمين في الخارج للغات البلاد المختلفة.

}} الالتفاف حول المرجعيات الإسلامية الكبرى في العالم وعلى رأسها الأزهر الشريف ومنهجه الوسطي الجامع بين الحفاظ على النصوص والتراث والحفاظ على المقاصد والمصالح.. واعتماد فتاوى المجامع الفقهية مثل مجمع الفقه الإسلامي في جدة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ومجمع الفقه بالهند، وغيرها، مع مراعاة تغير الفتاوى بتغير المكان والأحوال والأزمان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"