الفعل السياسي بين الحرفة والحكمة

02:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يتجسد الفعل السياسي ويتجلى عبر مسارات وسياقات متعددة تظل مرتبطة في مجملها وبدرجات متفاوتة، بالسياسة بوصفها ممارسة للسلطة؛ من حيث إنها تتميز عمّا هو «سياسي» يهدف إلى تنظيم حياة المدينة، وعن السياسة بما هي برامج عمل موجهة لتنظيم القطاعات المختلفة؛ لأن السياسة في علاقتها بالسلطة تطرح إشكالات كبرى، وتفرض تحديات عويصة على الدول والمجتمعات، وتتحكم في مستقبل الشعوب والأمم لعقود وربما لقرون من الزمن.
ومن أجل فهم الأخطار المتعلقة بممارسة السلطة السياسية على مستقبل الكيانات الوطنية، يتطلب الأمر منا متابعة تطور الفعل السياسي في الأزمنة الحديثة من مرحلة ممارسته التقليدية إلى غاية تجلياته الاحترافية والتقنية، أي من المستوى الفوقي- الهرمي المعلوم للسياسة إلى المستوى المُغْفَل والمجهول الذي يُضحّي بالحكمة السياسية لمصلحة الممارسة السياسية كتقنية أداتية صماء.
لا شك أن ارتقاء الفعل السياسي إلى مستوى الحرفة، أسهم بشكل لافت في تطور الحضارة الإنسانية المعاصرة، وفي جعل الدولة تبني منظومة صلبة ومتسقة من الحكم المدني، سمحت لها بإعادة تشكيل عناصر هويتها وبناء مؤسساتها بشكل ساعدها على تطوير نسق وظيفي جديد؛ وذلك اعتماداً على استراتيجية تقوم بممارسة تدبير بيروقراطي وعقلاني محايد للممارسة السياسية، وأعطت هذه الاستراتيجية أولوية قصوى لآلية اشتغال نسق التسيير الداخلي على حساب الشروط الإنسانية التي من المفترض أن تخضع لها السلطة السياسية.
وقد بدأت معالم السياسة بوصفها حرفة تقنية، تتبلور بداية من القرن السابع عشر مع ولادة العلم الحديث الذي سعى إلى السيطرة على الأرض وإلى التحكم الكامل في العالم من طرف الكائن البشري، وكان الهدف الأساسي المعلن من وراء تبني مشروع السيطرة العلمية على الطبيعة والمجتمع في عصر الأنوار، هو العمل على تحقيق تقدم وازدهار البشرية.
ولكي تصبح رؤيتنا للسياسة تقنية بشكل كامل، كان من الواجب على الإرادة أن توقف بحثها عن غايات خارج ذاتها لتتخذ من نفسها موضوعاً قائماً بذاته. وقد أدى ذلك إلى دخولنا إلى عالم مؤسّس على «العقل الأداتي»، وفق تعبير يورغن هابرماس، عالمٍ اختفت في سياقه، بشكل شبه كلي، الغايات لمصلحة هيمنة مطلقة للوسائل؛ قبل أن نصل إلى فرض واقع سياسي وتاريخي معاصر خالٍ من الغايات، يهيمن عليه منطق آلي أعمى قائم على التنافس، واقع تحوّل معه هدف مضاعفة وسائل سيطرة البشر على العالم إلى غاية في حد ذاتها. هكذا تراجعت في غفلة منا، قيم الحرية والسعادة، وبتنا نبحث في عولمتنا التقنية المعاصرة، عن التحكم من أجل التحكم، وعلى السيطرة من أجل السيطرة بعيداً عن كل رؤية للعالم تنير دروبنا السياسية.
وأسهمت كل هذه التطورات، في جعل السياسية تتحوّل إلى تقنية ليس لها غاية منفصلة عن البحث عن السلطة من أجل السلطة، بشكل لم تعد معه أهداف تعميم التعليم ومحاربة البطالة وتقليص الفوارق الاجتماعية وإعادة بعث النمو الاقتصادي، تشكل أهدافاً عليا نبيلة تستحق منا التضحية وبذل الجهد والعطاء لبلوغها تحقيقاً لسعادة الآخرين، ولكن فقط مجرّد وسائل يغلفها النفاق السياسي والاجتماعي للمحافظة على مكان الأفراد في أعلى هرم السلطة، من جهة، ولتوظيفها كسجل تجاري رائج بتكلفة متدنية، يسمح للمعارضين الذين يفتقدون لمؤهلات حقيقية، بولوج سوق المزايدات الرخيصة؛ من أجل توظيف المنابر الإعلامية لتحقيق مصالحهم الشخصية، من جهة أخرى.
إن الوصول إلى تحقيق الحكمة السياسية يتطلب التخلي عن القوالب السياسية الجاهزة التي ما فتئت تفرضها علينا السياسة في أبعادها ومظاهرها التقنية المهيمنة، وقد يكون الأمر مرتبطاً بما وصفه هربرت ماركوز، بالبحث عن علم جديد وعن تقنية مغايرة يكونان في خدمة الكائن الإنساني، أو قد يكون متعلقاً بالتحرّر من إكراهات «العقل الأداتي» والانتقال إلى العقل التواصلي، انطلاقاً من النموذج الذي يقترحه هابرماس؛ وربما يتطلب الأمر منا البحث أيضاً عن نموذج عقلاني مغاير، يكون أقرب إلى لحظة التأسيس الأول للكوجيطو الديكارتي مع بداية عصر النهضة، أي عن نموذج «كوجيطو للسعادة»، لا يبحث فقط في آليات اشتغال العقل والمعرفة وفي درجة اتساقهما، بقدر ما يصبو إلى جعل الإنسان أكثر ازدهاراً.
ولا ريب أن السياسة بما هي حكمة، ليست منعزلة البتة عن السياسي الحكيم الذي لا يفقد إنسانيته عندما يكون مستغرقاً في تفاصيل المشهد السياسي، وعن الأحزاب التي تدافع عن برامج حقيقية وواقعية ولا تسعى فقط إلى استبدال أشخاص بأشخاص آخرين، وليست بعيدة بالقدر نفسه عن المنظومات الإدارية والاقتصادية التي لا تضحي براحة ومصالح المواطنين من أجل تحقيق أعلى مستويات التنافسية.
إنها حكمة تعمل على الدفاع عن الثقافة الفكرية والأخلاقية لرجالات السياسة في كل بقاع المعمورة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"