ملاحظات حول الماضي ورؤية للمستقبل

04:56 صباحا
قراءة 5 دقائق

لا أظن أن هناك من عانى سوء التأويل واجتزاء النص والافتراء على الحقيقة مثلما شعرت به في الأسابيع الأخيرة، فلا بأس أن تتعرض لحملة سياسية وإعلامية، فتلك طبيعة العمل العام ومن يتصدى له، ولكن الانتقاء التحكمي والتفسير المتعمد للأفكار والعبارات من دون تجردٍ أو موضوعية، ولكن بحسابات مسبقة ونتائج مفترضة، فإن ذلك افتئات على الحق والحقيقة وتجاوزٌ لا ترضى به ثورات الشرفاء . أقول ذلك وأنا اقرأ في الصحف وأتابع في التلفاز عملية التعميم الجائرة وبعض الاتهامات المرسلة، نعم كنا نعلم جميعاً أن معظم الانتخابات البرلمانية والمحلية مزورة، ولكن ذلك كان يأتي في سياق تقليدٍ عبثي تعوّد عليه الناس، وحين يتهمني كل من هبّ ومن دبّ ومن عرف ومن لم يعرف بأنني قبلت مقعداً برلمانياً جاء بالتزوير، عليهم أن يدركوا أنني لم أحضر عملية الفرز ولا علم لي بما يمكن أن يكون قد جرى فيها، ثم انتظرت تقرير محكمة النقض في الطعن الخاص بتلك الانتخابات ووجدته ينفي واقعة التزوير ويقرر البطلان لأخطاء إدارية مثل مئات الحالات في البرلمان . كما أن دخولي تلك الانتخابات كان أقرب إلى المؤامرة التي استهدفتني أكثر منه قراراً سياسياً خالص النية ولا أعفي نفسي من المسؤولية، إذ ليست الانتخابات عملاً فكرياً ولا نشاطاً ثقافياً، ولكنها شيء آخر له أهله وخبراؤه ومريدوه .

نأتي للنقطة الثانية وهي التي تدهشني كثيراً وتتصل بحديثٍ صحافي منذ أكثر من عامٍ قلت فيه إن هناك من يرى أن رئيس مصر لا يأتي إلا برضاء أمريكي وبمباركة إسرائيلية، وكان المعنى واضحاً لا لبس فيه، والإشارة مباشرة إلى مسرح سياسي يجري إعداده ورئيسٍ قادم تقرر اختياره، وأنا أستحق التهنئة على شجاعة الكلمة بهذه العبارة التي فتحت عليّ أبواب الجحيم، وحاول البعض ظلماً وبهتاناً أن يصورني كما لو كنت مؤمناً بذلك . ولست مجرد راوية على مشهد يمثل أمامه، وقد التقط الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل بفطنته وخبرته وذكائه ماذا أعني بما قلت، وأن العبارة ليست رأياً لي ولكنها شهادة مني لذلك اتهمني بأنني شاهد ملك، وهو ما يعني أن الرسالة قد وصلته واضحة وصريحة، وقامت صحيفة الحزب الحاكم بسبي على صفحتين كاملتين واستكتبت زملائي وأصدقائي، حتى قال أحدهم هذه عينة من (فلتات الفقي المعتادة)، واستهدفتني الأقلام من كل جانب، الحكومة والمعارضة على حد سواء كأنما ألقى بي الأستاذ الكبير هيكل ككرة نار قذف بها النظام القائم وظل يرقب ردود الفعل في دهائه الراقي وحكمته العميقة . ولذلك فإن هذه العبارة تحسب لي تماماً وتثبت أنني أقول ما أرى وأشهد بما أشعر به .

ولكن الغريب أن كثيراً من المثقفين المصريين خصوصاً في الأسابيع الأخيرة ينتزعون هذه العبارة من سياقها الحقيقي ويبحثون لها عن معنى آخر، كما لو أنني كنت صاحب هذه الفكرة ولست فقط الراوي لها والناقل عنها . بل إن ناقداً أدبياً مثل الدكتور صبري حافظ الذي كان زميلاً لي في جامعة لندن يفهمها بنفس الطريقة التي حاول بها المغرضون بلا سندٍ ومن دون وعي على نحوٍ يجعلني أشعر بأن محاكم التفتيش المنصوبة هي محاولة جديدة للاغتيال المعنوي الذي عانيناه طويلاً من قبل، ثم جاءت دورة جديدة له لكي تضيف إلى هموم العمر هموم ثورة الشرفاء التي باركناها منذ اللحظة الأولى، بل وبشرنا بها كثيراً، ولكن هناك من لا يفهم الحقيقة لأنه لا يريد أن يفهمها، ويتصور أننا كان يجب أن نكون فرساناً بسيوف حادة النصال أمام من يستطيعون تشويه الصورة والعبث بالتاريخ الشخصي والسعي إلى سوء التأويل الدائم . ونسي هؤلاء وأولئك أنني ابن الدبلوماسية المصرية التي قضيت في خدمتها خمسة وثلاثين عاماً وتبوأت منصب السفير بالأقدمية المعتادة، كما تركت عملي في مؤسسة الرئاسة منذ عشرين عاماً، كذلك فإنني لخصت معاناة جيلي كله تحت تعبير الجيل المسروق والذي شبهته بالطابق المسحور في البنايات الكبيرة، حيث لا يقف عنده المصعد، وعندما قلت إن هناك ومضات إيجابية على صعيد الشأن القبطي في العقدين الأخيرين تجد من يقول إننا نعني بذلك الإشارة إلى عصر ذهبي في كل جوانبه، بينما كان هدفنا هو التركيز فقط على الشأن القبطي ومشكلاته، وهي نطاق تخصصي في مرحلة معينة، كما أنني بذلت في هذا الشأن جهداً مخلصاً عبر السنين، إيماناً مني بأننا ننتمي إلى نسيجٍ واحد لا فرق فيه بين مسلمٍ ومسيحي، فرباط الوطن أقوى من كل ما عداه . بقيت أمامنا بعض الملاحظات التي أرجو أن يتسع صدر أبنائنا من الأجيال الجديدة لتأملها والبحث فيها:

* أولاً: إن ثورة الشرفاء قد ولدت في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني ،2011 ولكن ميلاد مصر الدولة أسبق من ذلك بآلاف السنين، ولا يتصور أحد أن كل من عاش أو تعايش مع الأوضاع السابقة على تلك الثورة المجيدة هو ملوث بالطبيعة أو سيئ بالضرورة، فكلنا بشرٌ يخطئون ويصيبون، ولكن النظرة الاستبعادية هي نظرة ظالمة لم يقبلها الإسلام ذاته بعد نزول نور الهداية على أقوام الجاهلية .

* ثانياً: إن العمر البشري خبرة، ومرور السنوات تجربة، ولا يمكن أن نلغي بجرة قلمٍ كفاءات تنتسب لأصحابها وقدراتٍ تراكمت مع وقر السنين، فالحياة في النهاية تمضي بحماس الشباب وأيضاً بحكمة الشيوخ، والذين يتصورون غير ذلك إنما يسبحون في بحار الوهم، بل ويعومون أيضاً ضد التيار .

* ثالثاً: لقد أصدرت كتاباً منذ سنوات تحت عنون حوار الأجيال ضمنته بعض ما كتبته في العصور الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك، واكتشفت أن هناك خيطاً مشتركاً يربط بين أفكار كل ما كتبت وهو المعاناة الفكرية والإحساس بالتهميش وتجاهل الكفاءة وتركيز النظم على أهل الثقة ومزايا الأقربين، وذلك يعني ببساطة أن لكل جيلٍ محنته ولكل عصرٍ رموزه ولكل عهدٍ طقوسه .

* رابعاً: لقد استمعت إلى عشرات من شباب الثورة من كافة التنظيمات والائتلافات والجماعات، وأعترف بنقائهم جميعاً وأغفر لهم حدة العبارة أحياناً بمنطق حماس الشباب المتدفق ولهيب الثورة المستعر، ولكنني أرى أن بعضاً منه في حاجة إلى مزيدٍ من التثقيف الذاتي والمعرفة العميقة لأن الإنترنت وتوابعه هي جهاز معلومات، ولكنه ليس صانع ثقافة ولا ملهم رؤية .

* خامساً: إن إفساح المجال أمام القيادات الشابة والأجيال الجديدة لا يعني أن الأجيال التي سبقتها يجب أن تختفي بين يومٍ وليلة، وأن تتوارى عن الأنظار فوراً، لأن ذلك معناه انقطاع التواصل وانعدام الخبرة التي يجب أن تنتقل من جيلٍ إلى جيل كالشعلة المضيئة التي لا تخبو أبداً .

إنني أريد أن أسجل بإيجاز، أن الشباب الذي صنع الثورة يجب أن يمضي بها مؤمناً بأن مصر الدولة لا تتعارض مع مصر الثورة، وأن الثانية لن تكون بديلاً للأولى في بلدٍ عجوز علّم الدنيا وصنع الحضارة وألهم البشرية . كما أنني أدعو مخلصاً إلى ضرورة الفهم الحقيقي لمعنى الثورة على نظامٍ معين والتمرد على أوضاعٍ فاسدة، وأن ندرك أيضاً معنى التغيير والإصلاح، مؤمنين في الوقت ذاته بأن لكل حدثٍ كبير ضحاياه ولكل تحولٍ ضخم نتائجه . ولكنني أدعو في الوقت ذاته إلى ثورة لا تعرف الشطط، بحيث تصبح حالة انتقالية وليست فقط عملية انتقامية، ولا يغيب عن ذهننا أبداً أن مصر عانت كثيراً ودفعت ثمناً غالياً وآن الأوان لكي تعبر عن شخصيتها الحقيقية، بما فيها من وطنية معتدلة ووسطية متزنة تدفع بالإصلاح دفعاً في كافة نواحي الحياة المصرية وشؤونها العصرية، لأن مصر هي وريثة الحضارات وأرض الثقافات وصانعة الثورات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"