هستيريا الفوضى

03:13 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني
بعد انتهاء الحرب الباردة، تبارى المنظرون في الغرب في محاولة استكشاف المستقبل. تحدث كثيرون عن انتقال سريع من النظام ثنائي القطبية إلى آخر جديد تحتكر قيادته الولايات المتحدة، وخفف آخرون من فجائية القفزة، فتحدثوا عن حالة سيولة لابد أن تأخذ مدى كافياً إلى أن يتشكل نظام جديد، قد يكون متعدد الأقطاب لا ثنائياً ولا أحادياً.
كانت لحظة فارقة تداعت فيها النظريات، وتدفقت الأفكار المحتفية بما اعتبرته انتصاراً لقيم الحضارة الغربية والنظام الرأسمالي، فكتب «صموئيل هنتنجنتون» عن صدام الحضارات، وقال فرنسيس فوكوياما بنهاية التاريخ، وطرحت العولمة طريقاً لاكتساح الأسوار والأسواق. وأضافت كوندوليزا رايس الفوضى الخلاقة.
الحق أن الفوضى والنظام على مسافة لا تقاس بها الشعرة الفاصلة بين العبقرية والجنون. ولم تكن رايس عبقرية أو مجنونة عندما وعدت العالم بالفوضى، وما جاء منها كان قريباً من الاحتيال السياسي مفارقاً للإبداع الفكري، لأن الفوضى مدمرة والنظام هو الخلاق الكبير. ولقد تجلى النظام في الخلق العظيم للذي أبدع السموات والأرض، حيث الكون محكوم بقوانين موضوعية صارمة من الكلي والجزئي ومن الطبيعة إلى الأحياء.
يعكس واقع العالم اليوم صورة للفوضى، مطلقة وعارمة كالسيل، فالمفارقة مذهلة بين الرقي العلمي والانحطاط السياسي، وما يتولد عنه من دمار للحياة المادية والثقافية للبشر.
كان لينين يقول، إن السياسة تكثيف للاقتصاد. ولما كان الازدهار الاقتصادي ينعكس على حياة الناس، ويجد تجلياته في الثقافة والفنون والقانون والأخلاق، فإن البؤس المادي القائم يرخي بظلاله على السياسة، كما نرى من الحروب التي تطاولت من فاتحة القرن حتى هذه الساعة. والبائس فيها أن الدولة الأعظم والأخرى التي قاسمتها الهيمنة على العالم، منغمستان في حرب ضد عصابات تتكفل بها في العادة قوات من الشرطة والدرك، وفي ذلك تحطيم لمهابة القوى العظمى وامتهان لمعنى الحرب.
إن الحرب، وهي ذروة المأساة الإنسانية، ارتبطت بقيم الفروسية، وكثيراً ما اتصلت بنبل الأهداف وعدالة المطالب. أما هذه فلا هدف للتنظيمات الإرهابية منها غير القتل، ولا مطلب سوى الترويع. وأما عن المهابة المفقودة، فربما أنها بعض من بضاعة ترد إلى أصحابها، ذلك أن التنظيمات الإرهابية خرجت من رحم الإخوان المسلمين الذين نشؤوا برعاية شركة قناة السويس، والسفارة البريطانية في القاهرة، ثم ترعرعت في الحضانة الأمريكية بأفغانستان، وقويت ذراعها بالسلاح الذي خلفه الجيش الأمريكي بالعراق، وانتزعت به «القاعدة» أرضاً أقامت عليها «دولتها»، غير أن الحرب الدائرة هناك لا تشكل سوى طرف صغير من طوفان الفوضى المعمم، وفي السطح الطافي منه تحاول عصابات «داعش» وأخواتها بث الرعب في أقطار العالم العربي وفي دول شتى في آسيا وإفريقيا. وفي قلاع الرأسمالية بالقارة الأوروبية أضحى السكان يرتجفون من حمى الخوف دون أن يعلم اكثرهم أن سياسات بلدانهم عبدت طريق الجنون والموت.
في أوروبا انبعث اليمين المتطرف، واضطرت ديمقراطيات مقبلة إلى سن قوانين تخرج الحياة اليومية عن مسارها الطبيعي، إلى حافة القلق المزمن.
وفي الولايات المتحدة تطفح مشاعر العداء للمسلمين والعرب بشكل خاص. وأبلغ الأدلة وصول دونالد ترامب ممثلاً للحزب الجمهوري في المنافسة على كرسي الرئاسة الأمريكية. ومن يدري ؟ فقد تخيب استطلاعات الرأي العام، ويدخل البيت الأبيض. وفي حال استطاع أو فشل فإن المعنى أن ما يقارب نصف الأمريكيين يميلون إلى كراهية الآخر.
إن هذا وغيره يدحض التنظيرات التي راجت بعد انفراط العقد السوفييتي، فالنظام الرأسمالي لم يكتب الفصل الأخير ولا السطر الختامي للتاريخ. الشاهد هو الجنون الجامح والصراعات التي ترتدي طابعاً اقتصادياً وجيوسياسياً من دون أن تنطوي على أي مغزى لصدام بين الحضارات. وأبعد منه وصف أعمال التنظيمات الإرهابية بصدام بين الشرق والغرب أو بين الإسلام والمسيحية، لأن حروبها الدامية مقصود بها أوطانها وشعوبها. وعن العولمة فهي محققة بجبروت العلم، كسيحة بدواعي المصالح. بالعلم انفتحت السماوات أمام انتقال المعلومات والعلوم والفنون وحتى الأخلاق. وبالمصالح دكت أسوار وأسواق الدول الفقيرة أمام البضائع والسياسات الاقتصادية الهدامة، وأغلقت الأبواب أمام العمالة الباحثة عن الشغل والرزق.
وبقي أن الفوضى كاسحة مدمرة بما يدعو إلى التأمل في المصير البشري، والنهوض بمسؤولية صياغة نظام اقتصادي عالمي جديد يوفر العدالة ويغير المناخ المشجع على التطرف، ويوجه الموارد المستخدمة في صياغة السلاح إلى الاستثمار في الإنسان.
ذلك هو التحدي أمام البشرية الآن، وأمام القوى الكبرى بوجه خاص.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"