«حُجرة الشاي»

00:48 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

}} شاركت في جولات عدة للحوار العربي الياباني، وترددت على طوكيو وكيوتو أكثر من مرة، وفي كل زيارة، أحرص على تناول الشاي الياباني، في «حُجرة الشاي»، والتي لا تزيد على مجرد كوخ من القش، يخلو من «الديكور» والصور، وفيه تتم طقوس الشاي، (وهناك واحد من هذه الأكواخ، في «قصر الإمارات» في أبوظبي).

}} كلما دخلت «حجرة الشاي» بضوئها الخافت وصفائها وتواضعها أستشعر معاني السكينة والسلام الداخلي والنظافة.

ليس هناك ذرة غبار في زوايا الحجرة الوديعة، ليس هناك صوت، سوى نغمات هادئة، توحي بها «المغرفة» الخشبية وحركة «المناديل» الكتانية، والحفيف الناعم للضيافة اليابانية.

}} قال لي صديقي الياباني المشارك في حوارنا العربي الياباني: «إن «حجرة الشاي»، كانت في الماضي، بمثابة استراحة للساسة والمقاتلين ورجال الأعمال، وها هي اليوم، فرصة للهدوء والسلام لكل باحث عن الصفاء».

قلت له: «نعم.. نحتاج إلى حجرة شاي يابانية في عالمنا المضطرب».

}} رومانسية الشاي، عند الياباني، تركت آثارها البعيدة، في عادات الياباني وفنونه وآدابه وهندسته المعمارية، وربما أيضاً الأخلاقية، وقرأت لكاتب ياباني، وصفه لإنسان شغوف بالجمال والحياة بأنه «مفعم بالشاي».
}} قال البروفيسور الياباني (هروموسا كانو) الأستاذ في جامعة تسودا جاكو، أثناء مناقشات الحوار العربي الياباني التي عقدت في عمان في سبتمبر/أيلول 1992:

«لدى الشعب الياباني انطباع، بأن العالم العربي يستعصي على الفهم»، وعلَّقت قائلاً وقتها: «رغم أن الشعب العربي مفعم بالشاي، ومغرم به وأعلن صراحة ولاءه للشاي».

}} وفي إحدى زياراتي إلى مدينة بوسطن الأمريكية، وقفت أمام قصة «حفلة الشاي في بوسطن»، حينما نشبت احتجاجات شعبية في عام 1773، مناهضة لقرار بريطانيا زيادة الضرائب المفروضة على الشاي المستورد بواسطة شركة الهند الشرقية، وقام الثوَّار بالصعود إلى السفن التجارية البريطانية، وألقوا بحمولات هذه السفن من الشاي في مياه ميناء بوسطن، وشكلت هذه الاحتجاجات، إحدى أهم شرارات الثورة الأمريكية.
}} وتدور الأيام، وتشهد المدن الأمريكية في عام 2010 ولادة حركة سياسية تسمي نفسها «حركة حفلة الشاي»، ولا يزال لها مناصرون وتأثير في الحياة السياسية الأمريكية الراهنة.

}} والشاي، هذه العشبة «الطبية» التي قيل إنها زرعت لأول مرة في جنوب الصين، وذكرها رحالة عرب في القرون الوسطى، حملته سفن الاستعمار الهولندي في القرن السادس عشر إلى أوروبا، وصار معروفاً في فرنسا وبريطانيا، وتحوّل إلى ضرورة في حياة شعوب كثيرة في العالم.

}} والشاي، وقد تغلغل في عاداتنا الغذائية اليومية، وأصبح اليوم، أحد رموز الضيافة، حمل معه خصوصيات في صناعته وتناوله وأدواته و«خلطاته»، وعبر حدود الثقافات والهويات، وصارت له طقوسه «الطبقية»، واختلطت معه أعشاب وفاكهة أخرى كالزعتر والزنجبيل والنعناع والليمون والقرفة.. إلخ.
}} لدى البعض (السواد الأعظم) يعتبر الشاي، مجرد شراب، يهدئ الأعصاب، وأصبح عادة يومية، ولدى البعض الآخر (وهم قلة)، فإن للشاي ملامح أخرى، ومزاجاً آخر أو قل فلسفة أخرى، وقيمة جمالية.
}} تذوقت الشاي في سنوات دراستي الجامعية في مصر الناصرية، وقيل لي، ونحن نتناول الفول في مطعم (فلفلة): «إن الشاي ضروري، لهضم الفول»، وما زال مذاق تلك الأيام في الحواس والذاكرة.
}} وتذوقته أيضاً في مصر الساداتية، أثناء عملي الدبلوماسي وشربت الشاي، في مقاهي القاهرة، وبخاصة في «مقهى الفيشاوي» بحي الأزهر، والذي يحمل تاريخ المصريين ونبضهم، ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1797، وشاهدت فيه الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ، وعدداً كبيراً من الفنانين والأدباء المصريين، والسياح العرب والأجانب، وبهرني ما في المقهى، من ملامح شرقية، وتحف وكتب، وخشب مزركش، ومقاعد جلدية، وأباريق الشاي المعدنية، التي تفوح منها رائحة النعناع.
}} ورافقت ذات أمسية، المغفور له سيف غباش وزير الدولة للشؤون الخارجية، وشربنا «شاي الفيشاوي»، وتردد على المقهى زعماء وقادة فكر وعلم، وكبار فناني مصر، ومنهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش وسميحة أيوب ونور الشريف وغيرهم، وصادفت في إحدى زياراتي للمقهى، وجود أسامة الباز، وبطرس غالي وكامل زهيري ورجاء النقاش وجابر عصفور، وقيل لي، إن جمال الدين الأفغاني، الذي كان «مفعماً بالشاي»، تردد على هذا المقهى، وكذلك فعل الشيخ محمد عبده.
}} تذكرت قول أحد الشعراء العرب، في الشاي:

إذا صبّ في كأس حسبته عقيقاً
مذاباً في كأس جوهر

}} وجاء زمن سماه أحمد بهاء الدين، «سداح مداح»، وغنت فيه مطربة «دلوعة» اسمها ليلى نظمي، وقالت:

«ما اشربش الشاي، أشرب أزوزة أنا»!!

}} وربما كانت هذه الأغنية، «بشرى سيئة»، ففي شوارع ومقاهي القاهرة وبيروت وغيرهما، فقَدَ «شرب الشاي»، شاعريته ونكهته وأصالته في السنوات الأخيرة.
}} وفي الجزيرة العربية والخليج، حضر «غرور القهوة» الإيطالية والأمريكية والفرنسية. وتراجعت «براءة» الشاي العربي الأصيل، وسحره الخفي، وتقدم في السنوات الأخيرة شاي «الكرك»، وبخاصة في مقاهي الإمارات وسلطنة عمان، وقال عنه عشّاقه بأنه «يُعْدِل المزاج ويحسِّنه».
}} وقد عرف عرب الخليج «شاي الكرك»، منذ عقود ما قبل النفط، من خلال التبادل التجاري والإنساني مع شبه القارة الهندية. والكرك، كلمة بلغة الأوردو، وتعني الشاي الثقيل المغلي بالحليب والزعفران أو الهيل، وتضاف إليه أحياناً القرفة والزنجبيل. وشاي الكرك، يبدو في هذه الأيام، سيد الشاي وموضته لدى الشباب.
}} وقد لاحظت مؤخراً، أن صديقاً قد صحب معه في سفره للمشاركة في أحد المؤتمرات الثقافية، أدوات ومواد صنع شاي الكرك، حيث قال، «بأنه لا يستطيع الاستغناء عن الكرك يوماً واحداً».
}} ومع انتشار مراكز التسوق الكبرى في مدن الخليج العربية، وتنوع المقاهي وتعدد أصناف ومذاق القهوة والشاي فيها، فقد هجر الشباب والكهول أيضاً مقارّ المنتديات الثقافية والجمعيات المهنية والنوادي الرياضية، إلى المقاهي في مراكز التسوق، للترويح ولقاء الأصدقاء والتواصل الاجتماعي، والثرثرة في الشؤون العامة، بما فيها «صداع» الشرق الأوسط!! و«النقر» على وسائل الاتصال الاجتماعي.

........
........

}} تداعب أصابعنا أكواب الشاي، وقد يتخذ بعضنا منها الأمل في راحة تحل مكان تلك المتعبة، أو تساعدنا في فهم وتفكيك الأسئلة المتخبطة في أدمغتنا، وقد تصلح هذه الأكواب، كأيقونة ضد الصداع، وربما ضد الاكتئاب. ومحاولة نسيان أخبار القتل والنحر والحرق والدمار. وقد تُنعشنا للحظات، فنُخزِّن في ذاكرتنا بذور الأمل، لأيام قادمة نجهل ما ستحمله لنا من الأنباء.
}} نعم.. الشاي رفيق الصبا والشباب والكهولة، جدير بالكتابة فيه وعنه، جدير بالمدح، ألم يكن - ولا يزال - فطور فقراء العرب مع كسرة خُبز؟؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"