هدف سابع للمشروع النهضوي العربي

04:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

هل يعي عرب اليوم حقاً ما حققه أسلافهم من إنجازات هائلة في حقلي العلوم والتكنولوجيا والتي لولاها ما قامت مختلف حضاراتهم الرائعة عبر حقب التاريخ المديدة؟ فالعلوم والتكنولوجيا الزراعية عرفها أهل مصر وسومر قبل سبعة آلاف سنة، والهندسة المعمارية بنت الأهرامات قبل خمسة آلاف سنة، وفن الكتابة وجد عند المصريين والفينيقيين قبل خمسة آلاف سنة، وكذا الأمر بالنسبة لصهر النحاس وبناء السفن وتطوير علوم الفلك والطب الخ.

والسؤال: هل كان بإمكان تلك المجتمعات أن تحمي نفسها وتستقر وتتطور لو لم توجد تلك المنظومات العلمية التقانية، على بساطتها وبدائيتها، كنشاطات تدعم القتصاد والأمن في تلك المجتمعات؟

ليس المقصود من طرح مثل هذه الأسئلة الدخول في شباك علم التاريخ المعقد. المقصود هو توجيه هذه الأسئلة للحاضر العربي. كيف؟ الجواب يكمن في تدقيق النظر في مكونات المشروع النهضوي العربي. فهذا المشروع نوقش في مؤتمرات كثيرة وكتبت فيه المجلدات. وهو مشروع مطروح بأشكال واستنتاجات مختلفة منذ نهاية القرن الثامن عشر. وإذا تفحصناه في صوره الأخيرة، والمتفق عليها من قبل الكثيرين من المفكرين العرب، فإننا سنجد أنه يتلخص في ستة أهداف رئيسية محورية، هي الاستقلال الوطني والوحدة العربية والتنمية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري. وهي أهداف كبرى تتوجه نحو تحديث الوطن العربي وإدخال ساكنيه في قلب العصر الذي يعيشونه.

نحن إذاً نريد ولوج عين دائرة العصر لا هوامشه. ولا يوجد شك في أن كل هدف من تلك الأهداف الستة ستساعد على عملية الولوج تلك. ومع ذلك، عندما يدرس القارئ مجلدات المشروع النهضوي العربي يشعر بأن شيئاً ما يمتّ إلى روح العصر ويحرك ماكنته منذ أربعة قرون، بل ويفرض نوع المسار الذي سيسير فيه عصرنا في المستقبل، إن شيئاً ما غائب إما لأنه مهمش أو لأنه يتعامل معه كأداة ووسيلة لتحقيق بعض تلك الأهداف الكبرى، وعلى الأخص هدف التنمية، هذا الشيء الغائب إلى حد ما هو الوجود البارز لمنظومة العلوم والتكنولوجيا في هذا المشروع القومي.

وفي الحال دعنا نطرح السؤال التالي: هل بناء منظومة العلوم التكنولوجيا تستحق، بل يجب، أن تكون هدفاً سابعاً قائماً بذاته ومساوياً لغيره، لا عنصراً مساعداً بالأهداف الستة الأخرى؟ هذا سؤال محوري ولذلك دعنا نستعين أولاً هنا بالتاريخ والواقع. ألمانيا النازية كانت غير ديمقراطية لكن منظومة العلم التكنولوجيا عندها كانت قوية وراسخة فوقفت أمام أوروبا كلها خمس سنوات وكادت أن تنتصر. الاتحاد السوفييتي كان يحقق الكثير من متطلبات العدالة الاجتماعية لكنه انهار في النهاية لأسباب ضعف منظومته العلمية التكنولوجية بالمقارنة لمنافسيه في الغرب الرأسمالي. اليابان كانت متخلفة وراء مصر محمد علي باشا، لكنها بنت منظومة علمية تكنولوجية عبر قرن بإصرار ونجاح فنهضت، بينما لم يسمح الغرب لمصر لبناء منظومتها فسقط مشروع محمد علي باشا في مهده. اليوم أحد أسباب الصعود المذهل للصين والهند هو بناؤهما لمنظومة علمية تكنولوجية ذاتية. القائمة طويلة ووجود أو عدم وجود المنظومة لم يكن السبب الوحيد في الصعود أو الهبوط. لقد كانت هناك أسباب أخر.. لكن وجود المنظومة كان حاسماً في تاريخ المجتمعات عبر التاريخ كله وسيكون حاسماً عبر مستقبلها.

نود الخروج باستنتاج بسيط ومهم: في أيامنا الحالية يكثر الحديث عبر الوطن العربي كله عن المكونات المطلوبة لنهوض العرب. هناك كلام كثير عن أهمية الديمقراطية والوحدة العربية والتنمية والتجديد الثقافي الإسلامي وباقي أهداف المشروع النهضوي، بينما ينزوي هدف بناء منظومة علمية تقانية كهدف ثانوي مساعد عند الحكومات وعند مؤسسات المجتمع المدني. وينسى الجميع أن ما يحرك حضارة العصر برمتها وما يقرّر مساراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية هو تفاعلات وإنجازات وتوجهات منظومة العلوم والتكنولوجيا. المطلوب هو نظرة جديدة لمكانة هذه المنظومة في المشروع النهضوي العربي، وهو ما سنتناوله في المقال القادم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"