حماقة الانكفاء الأمريكي

03:06 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

كل من يرتبط بتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، أو يعتمد على المظلة الأمنية التي توفرها لأصدقائها، سيكون مدعواً، بالضرورة، لمتابعة النقاش الدائر حالياً في واشنطن بين النخبة السياسية حول مستقبل الدور الأمريكي في العالم.
الموضوع ليس جديداً، ويعاد طرحه بمناسبة قرب الانتخابات الرئاسية، وسط دعوات أصبحت أعلى صوتاً، تطالب بتقليص المشاركة في أزمات العالم، والتخلي عن كثير من الالتزامات والتعهدات الأمنية المكلفة.
وتلقى هذه الدعوات آذاناً صاغية في البيت الأبيض. بل إن الرئيس دونالد ترامب، هو من يشجعها. ولعل هذا ما يعيد طرح القضية الآن في ضوء التوقعات بأن يتمادى في اتجاهاته الانعزالية إذا أعيد انتخابه.
ومع ذلك، فإنه بوجود ترامب، أو رحيله، لا يمكن تجاهل حقيقة أن أمريكا تتغير من الداخل، ومن الطبيعي أن يكون لذلك انعكاساته على سياستها الخارجية.
انتهت سبعة عقود من إجماع الحزبين الرئيسيين على طبيعة وحجم دورها في العالم. وباتت أصوات دعاة الانعزالية والانكفاء على الذات ترتفع بقوة. وقد عرضنا في هذا المكان الأسبوع الماضي، آراء أصحاب هذا الاتجاه الذي يقاومه بالطبع كثيرون يحذرون من خطورة الانسحاب إلى الداخل، وتأثيره المدمر في الأمن القومي، والاستقرار العالمي. وإلى هذا الرأي الأخير تنحاز مجلة «فورين افييرز»، أحد أهم منابر النقاش حول السياسة الخارجية. وفي تقرير مطول نشرته في عدد مارس/ آذار الجاري، فندت مبررات «الانكفائيين» من دون أن تنفي وجود سوق رائجة لأفكارهم بين قطاع كبير من الأمريكيين.
واعتبر التقرير الذي حمل عنوان «حماقة الانكفاء»، أن اعتقاد دعاة الانعزال أن أمريكا ستكون في وضع أفضل إذا تخففت من أعبائها الأمنية الخارجية هو وعد كاذب، وخطأ استراتيجي فادح لخمسة أسباب؛ الأول، أن الانعزال سيشعل سباق تنافس إقليمياً شرساً في آسيا، وأوروبا، لسد الفراغ الذي ستخلفه أمريكا. وفي ظل هذه الأجواء الملتهبة تزيد فرص الصدام العسكري بين القوى الإقليمية.
السبب الثاني، أن تراجع أمريكا عن التزاماتها الأمنية، بما في ذلك الانسحاب من حلف «الناتو»، كما المح إلى ذلك ترامب نفسه، يمثل دعوة علنية لإطلاق سباق تسلح نووي في أوروبا، وسيمتد بالتأكيد إلى آسيا وغيرها بدافع حماية الأمن القومي لكل دولة.
ثالث الأسباب يتعلق بصعود اليمين المتطرف في أوروبا الذي سينعشه انسحاب أمريكا، وبالتالي إضعاف القوى الليبرالية المعتدلة. كما أن اليمين بمبادئه الحمائية في مجال التجارة سيتسبب بأضرار اقتصادية كبيرة لأمريكا. مع ميله لمساندة روسيا والصين.
الخطأ الرابع الفادح في دعاوى الانعزاليين، هو اقتراحهم الاعتراف بمناطق نفوذ روسيا والصين في محيطهيما الإقليميين، ونصيحتهم لواشنطن بعدم مزاحمتهما فيهما، ما يعني تشجيع الدولتين على التمدد، فلن تقف طموحاتهما الإقليمية عند تلك الحدود إذا تراجعت أمريكا أمامهما. أما الدعوة للتخلي عن تايوان فهي الجنون بعينه، كما تقول المجلة، لأن معناه صدام محتم بين الجزيرة المنفصلة، والصين.
المشكلة الخامسة مع الانعزاليين، هي أن أفكارهم حول التخلي عن الحلفاء لا تلقى قبولاً شعبياً واسعاً حتى لو أيدها قطاع عريض من الجمهور. واستطلاعات الرأي تشير إلى دعم الأمريكيين لاستمرار مساندة «الناتو» واليابان خلافاً للشرق الأوسط، وأفغانستان.
ورغم تلك الردود القوية التي يواجه بها أنصار المدرسة التقليدية في السياسة الخارجية خصومهم من الانعزاليين، فإن هؤلاء التقليديين يعترفون بضرورة إدخال تغييرات جوهرية على مسار السياسة الخارجية، بما يحفظ التوازن بين ضرورات الأمن القومي ومتطلبات الاستقرار العالمي، والمصالح الاقتصادية. وكحل واقعي يقترحون ما يصفونه «بالانكفاء الانتقائي»، بمعنى تهذيب الالتزامات الأمنية تجاه الحلفاء والأصدقاء. وإلزامهم بتحمل مسؤولية أكبر في حماية أنفسهم، وتقليص الوجود العسكري الأمريكي في العالم.
اللافت للنظر أن الرافضين لفكرة الانكفاء على الذات يختلفون بقوة مع خصومهم عند الحديث عن التخلي عن الأصدقاء في آسيا، وأوروبا. أما الشرق الأوسط فإنهما يتفقان على ضرورة التوقف عن خطيئة التورط في أزماته المزمنة، وحروبه التي لا تنتهي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"