بعد “التدخل الإنساني” التدخل البيئي؟

04:45 صباحا
قراءة 4 دقائق

يتفق العلماء وأصحاب القرار على أنه مهما كانت الإجراءات المتخذة للحد من تأثير التغيرات المناخية فإن الاحترار العالمي سوف يزداد ومعه الكوارث الطبيعية التي شاهدنا الكثير منها إلى الآن . وهذا، في رأيهم، يتطلب القيام بعمليات عسكرية لمساعدة الضحايا . والتغير المناخي هو أيضاً رهان أمني بسبب الصراعات التي قد تتسبب بها تداعياته المرئية كالفيضانات، أو ندرة الموارد الأولية كالمياه والطاقة . وهذا قد يؤدي إلى فوضى سياسية في البلدان المصابة ونزاعات حدودية وهجرات كثيفة للسكان داخل الحدود الوطنية وخارجها .

فُتح هذا الجدل في الولايات المتحدة منذ العام 1990 تاريخ إنشاء معهد السياسة البيئية للقوات البرية، وهو أحد أهم مؤسسات العصف الفكري التي تقدم الدراسات والمقترحات للقوة الأعظم في مجال المخاطر البيئية والتصدي لها . بالإضافة إليه هناك مراكز أبحاث مستقلة نافذة، مثل مجلس العلاقات الخارجية التي تسهم في هذا النقاش الذي حثت عليه إدارة الرئيس كلينتون، بتأثير من نائبه آل غور . لكن مثل هذه الأصوات خفتت في عهد الرئيس بوش الابن الذي لم يهتم سوى بالحرب على الإرهاب، وفي الولاية الأولى للرئيس أوباما بسبب المعارضة الجمهورية .

من جهة الحلفاء الأوروبيين صدرت عن المعهد العالي الوطني للدراسات الأمنية الفرنسي دراسة في العام ،2006 شددت على ضرورة أن تستعد الأجهزة المدنية والأمنية للتكيف مع الآثار الناجمة عن التغيرات المناخية . في حين أن الكتاب الأبيض للدفاع الصادر في العام 2008 تكلم عما سماها الرهانات البيئية . ولكن على العموم بقي اهتمام العسكريين الفرنسيين بهذه المسائل محدوداً إلى حد كبير .

أما في بريطانيا، فقد انخرط العسكريون بكليتهم في هذه المسائل بفضل تشجيع الحكومة البريطانية على مكافحة المخاطر الناجمة عن التغيرات المناخية . في العام 2006 صدر تقرير الاقتصادي البريطاني نيكولا سترن نائب الرئيس الاسبق للبنك الدولي عن الخسائر الناجمة عن الاحترار المناخي وتداعياته . وكان له صدى دولي واسع وأخذته الحكومة البريطانية على محمل الجد معتبرة أن المسائل المناخية تخضع لصلاحيات وزارات عدة منها وزارة الدفاع . وفي العام 2009 عُين الأميرال نيل موريزوتي لمدة أربع سنوات على رأس الدبلوماسية البريطانية في مجال المناخ وأمن الطاقة فأعلن أن الخطر المناخي هو خطر محدق وعامل مُضاعف لمخاطر الاضطرابات العالمية القائمة ويزيد من حدة النزاعات التي تضر بالمصالح الوطنية البريطانية هذا التعبير مضاعف للمخاطر أصبح متعارفاً عليه في أوروبا والولايات المتحدة لتبرير انخراط القوات المسلحة في مهام حماية المدنيين خلال إدارة الأزمات البيئية .

هذه الرؤى المتناغمة للخطر البيئي وطريقة تصنيفه وإدماج عدد كبير من المؤسسات في معادلته شكلت مرحلة أولى أساسية في تعريف الأهداف الاستراتيجية المشتركة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي .

في داخل البنى الأوروبية دخلت العلاقة بين التغير المناخي والأمن في صلب النصوص الرسمية، كما جرى في العام 2003 في الوثيقة-الإطار الموسومة الاستراتيجية الأمنية الأوروبية . فمنذ هذه الوثيقة تطورت مساحات الحوار بين الدبلوماسيين بحضور الخبراء غير الحكوميين لاسيما حول أعمال معهد الأمن البيئي في لاهاي . وفي العام 2008 تكلم الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا في تقريره حول وضع استراتيجية أمنية أوروبية عن النتائج متعددة الأشكال للكوارث الطبيعية وتلوث البيئة والتنافس للاستحواذ على المواد الاولية . وبعد مبادرات عدة فرنسية وبريطانية وألمانية، وبعد نشر تقرير برلماني أوروبي حول الأمن البيئي في نهاية العام 2012 أضحى هذا الموضوع محلاً لنقاش مفتوح في أيامنا هذه .

وكان حلف الأطلسي في تسعينات القرن المنصرم قرر توسيع مهامه في مواجهة أوضاع أكثر فأكثر تعقيداً . لقد أخذ الرهان البيئي يدخل شيئاً فشيئاً في تفكيره الاستراتيجي، الأمر الذي كرسته قمة لشبونة في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2010 قبل أن يذهب الحلف في قمة شيكاغو في مايو/ أيار ،2012 إلى أبعد من ذلك عندما تكلم عن قدراته في مجال التدخل البعيد والسريع لمواجهة كوارث طبيعية أو غيرها من الأوضاع الملحة المفاجئة الناجمة عن التغير المناخي . هذا الخطاب الذي يبرر التدخلات الخارجية للحلف لم يعجب الصين وروسيا اللتان حذرتا من خرق سيادة الدول بذريعة حق التدخل البيئي كما حصل، غير مرة، بذريعة حق التدخل الإنساني .

والحقيقة أن التدخل الإنساني كان في البداية مجرد أفكار للنقاش طرحها مثقفون وسياسيون أبرزهم رئيس منظمة أطباء بلا حدود، الاشتراكي برنار كوشنر الذي أضحى في ما بعد وزيراً للخارجية في عهد ساركوزي . وقد أخذت هذه الفكرة وقتها من النقاش قبل أن يقتنع بها زعماء دول كبرى في حلف الأطلسي وتجد طريقها إلى التطبيق في العراق وصربيا أيام ميلوزوفيتش ثم أضحت ذريعة للتدخل الاستنسابي في دول من دون أخرى . فهل تسير فكرة التدخل البيئي في الدرب نفسه قبل أن تتحول إلى واقع أم تصطدم بميزان قوى دولي تغير عما كان عليه صبيحة انتهاء الحرب الباردة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"