لحظة تاريخية مناسبة لفكر جديد

04:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

نحن في محطة تاريخية عربية قابلة للصعود العظيم المذهل أو السقوط المأساوي المذل.
ما يميّز هذه المحطة التي يعيشها الوطن العربي منذ عشر سنوات، أن تاريخه الحديث لم يرَ مثل تألّق الإمكانيات الهائلة الحالية لحدوث تغيرات كبرى في حياة العرب، ومثل الاستعداد الواعي المجتمعي لدى ملايين العرب لقبول أفكار عقلانية ذاتية تجددية وممارسة سلوكيات حياتية عصرية.
لحظة المنعطف التاريخي الحالية، إذن، هي فرصة للمفكرين التجديديين والمثقفين الملتزمين العرب لطرح ما كان يصعب طرحه في الماضي بسبب ممانعة ورفض كُثر من أفراد الأمة سابقاً لمثل تلك الطروحات، إمّا لأسباب دينية متوهمة، أو بسبب التمسّك بمسلمات متخلّفة قديمة عفى عليها الزمن، أو بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن الانغماس في الحاضر يغني عن الأهمية الكبرى لتفكيك ونقد وتجاوز كل ما في الماضي من تراث متخلّف أو تراث بدائي، إن كان قد صلح لزمانه فإنه ما عاد صالحاً لأزمنة الحاضر المعقدة.
المشهد إذن مهيأ، فالبربرية الجهادية التكفيرية التي مارستها القاعدة وبناتها، تحت شتّى المسميات، من قطع للرؤوس، وحرق الأجساد، وسبي للنساء وغزو تدميري للمدن، واستباحة لأتباع الديانات الأخرى، أقنع الملايين من جماهير العرب بأن التراث الفقهي الذي اعتمدت عليه تلك البربرية الجهادية التكفيرية لتبرير أفعالها وحماقاتها يحتاج بالفعل إلى مراجعة جذرية تفكيكية نقدية تبرز نقاط ضعفه، وملابساته التاريخية، وتزمّت أصحابه غير المبّرر، وكونه ليس أكثر من اجتهادات بشرية قابلة للقبول أو الرّفض.
وقبول الملايين لتلك المراجعة سيكون أقوى وأكثر انتشاراً إذا تمت مراجعة التراث المتخلف المتزمت ذاك من خلال إبراز التراث المستنير العقلاني. فهناك تراث تنويري عقلاني قادر على الرد على تراث ظلامي، وهناك ابن رشد قادر على أن يحاجج ابن تيمية مثلاً، وهناك محمد عبده قادر على أن يردّ على المودودي.
هذا مدخل كبير واعد يحتاج إلى كتلة تاريخية من المفكرين والمثقفين العرب ليقوموا به.
وبالطبع لن يكون الرد على التراث بالتراث فقط، وإنما ستسنده وتغنيه منظومة هائلة من مدارس فلسفية وعلوم اجتماعية حديثة تحتاج إلى إيصالها إلى أذهان الملايين من العرب المتعطّشين الآن لقراءة وسماع منظومة فهم ديني إسلامي جديد، تسقط كل ما في تراث الماضي من نواقص أو سوء فهم أو دس أو استعمال انتهازي ليحل محله دين العدالة والقسط والميزان والتراحم والتسامح والأخوة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، الذي بشر به نبيّه الثوري العظيم.
الأمر نفسه ينطبق على اقتناع الملايين من جماهير العرب بأن الروابط القبلية والعشائرية والجهوية والعرقية، التي استعملها الفاسدون والناهبون عبر العصور ليغطّوا على امتيازاتهم وهيمنتهم على مصادر القوة والثروة والجاه، وهي التي وراء أنظمة سياسية متخلفة، قامت على المحاصصات الطائفية والقبلية والجهوية، وذلك على حساب معيشتهم وكرامتهم الإنسانية.
يسمع الإنسان كلمات التبرؤ من تلك الروابط في السياسة والدين والاقتصاد من خلال أفواه الشباب الثائرين المرابطين في ساحات وشوارع شتّى من مدن وطن العرب. إنها كلمات قطيعة حقيقية صادقة مع إرث مريض، أغمض عيونهم ودجن عقولهم عبر العصور، وكان غطاء لتبرير جوعهم وعريهم وقلة حيلتهم.
إضافة لكل تلك المهمات المناطة بالمفكرين والمثقفين العرب، والتي أصبحت أسهل وأمضى في ظل ظروف التغيرات الذهنية والنفسية الحالية المتعاظمة، سنحتاج إلى كتلة مؤرخين تقوم بتبيان تجارب الآخرين في مواجهة أوضاع مشابهة لأوضاعنا. فعلى سبيل المثال هناك التجربة الأوروبية في التعامل مع الصراعات الدينية والمذهبية التي اجتاحت أوروبا إبان العصور الوسطى، والتي أكلت الأخضر واليابس في طول وعرض أوروبا القرون الوسطى. إن في خروج أوروبا من تلك المحن دروساً يمكن تبني الإيجابي منها وتجنّب السلبي، هذا إذا كانت الدراسة موضوعية وعقلانية ومتوازنة وغير تقليدية عمياء.
إن فهم مثل تلك التجارب، في الغرب والشرق على السواء، يحتاج لأن يكون رافعة في جهود إحداث التغييرات الكبرى في الحياة العربية، جهود متناغمة ومتساندة ومتفاعلة.
الملايين مهيأة، فهل القلة المفكرة المثقفة الملتزمة المطلوبة مهيّأة هي الأخرى؟ إنها فرصة تاريخية، وستكون كارثة لو أنها ضاعت، خصوصاً إذا اعتقدت الأكثرية الجماهيرية والأقلية المفكرة بأن التغييرات السياسية وحدها كافية، وأهملت التغييرات الفكرية والثقافية الضرورية المطلوبة.
مسيرة التاريخ لن تنتظر المترددين والخائفين، واللحظة الحالية هي لحظة وخطوة في تلك المسيرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"