الرؤية قبل البرنامج

04:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
شغل المصريون أنفسهم في الأسابيع الأخيرة بالبرنامج الانتخابي لكل مرشح رئاسي، ولكن الأمر في ظني يتجاوز ذلك إلى البحث في الخلفية الفكرية لمن نسلمه قيادة البلاد في السنوات الأربع القادمة، فالبرامج متوافرة والأفكار موجودة والاقتراحات كثيرة والمشروعات بغير حدود ولكن يسبق ذلك كله ضرورة البحث في منهج التفكير لدى المرشح، لأن الإنسان في النهاية "مشروع زمني" تحكمه ملابسات وظروف مع ارتباط بطبيعة التعليم ونوعية الثقافة ونمط المعيشة، إن الفارق بين شخص وآخر يكمن في طريقة كل منهما في جدولة ذهنه وتركيز أولوياته وقدرته على الخيال واستشراف المستقبل وتحديد ملامح مجتمع الأمل . إننا عندما نتحدث عن برنامج "السيسي" أو "صباحي" فإننا لا نتحدث عن أوراق صماء أو دراسات نظرية، بل يجب أن نتحدث عن الرؤى التي تحكم كل منهما، لذلك فإنني أطرح الملاحظات الآتية:
* أولاً: إن الرئيس القادم سوف يجد على مكتبه عدداً من الملفات المهمة وعليه أن يفاضل بينها من حيث الأهمية وتأثير عنصر الزمن أيضاً، لأن هناك أموراً مهمة ولكنها ليست عاجلة وأموراً أخرى ذات طبيعة عاجلة وإن كانت أقل أهمية، فإذا اقتحم الرئيس القادم القضايا المثارة والمسائل الشائكة فإن عليه أن يختار منها حتى يعرف كيف يبدأ التعامل مع الأوضاع القائمة . إن على مكتب الرئيس القادم ملفات "سد النهضة"، تطهير "سيناء"، حماية الحدود الغربية والجنوبية للخريطة المصرية، النهوض بالتعليم، الارتقاء بالعشوائيات من خلال مواجهة غير نمطية، ضمان الرعاية الصحية للفقراء، كل ذلك يأتي مع تشجيع الاستثمار ودفع معدلات النمو والربط بين الديمقراطية والتنمية باعتبارهما الجناح السياسي والجناح الاقتصادي الذي يطير به جسد الوطن المصري، إن الرئيس القادم مطالب بأن يدرس جيداً "فقه الأولويات" وأن يعرف كيف يبدأ لأن البداية الصحيحة تؤدي إلى الطريق الأمثل والنهاية الناجحة .
* ثانياً: يجب أن يدرك كل مرشح رئاسي أنه ليس حالة خاصة ولا عبقرياً لم تأت به الأوائل، بل لعله يدرك جيداً أنه إنسان عادي قادته المقادير إلى حيث هو، وهنا نتوقف قليلاً عند أهمية التشاور وتبادل الرأي لأن الإنسان الفرد لا يستطيع وحده، مهما كانت قدراته وخبراته، أن يقرر في كل القضايا وأن يتحدث في كل الأمور، لأنه لم يعش الدهر كله كما لم يعش في كل مكان! من هنا كان ميلاد الفكر الديمقراطي استكمالاً "لنظرية الشورى" واعترافاً بحقيقة مؤداها أن الزعماء لا يحكمون وحدهم، إذ إن من يحيطون بهم يؤدون دوراً كبيراً في تحديد المسار ونوعية الاختيار .
* ثالثاً: إن الفارق بين شخص وآخر يكمن في قدرته على التخيل، فالخيال الثري هو الذي يحقق الإنجازات العظيمة ويضع صاحبه أمام مفترق طرق تبدو كلها مضاءة أمامه، كما أن قدرة مؤسسات المجتمع على النهوض به تبدو ممكنة الآن، وفي ظني أن التركيز على العامل القومي يمكن أن يمتص جزءاً كبيراً من المشكلات ويدفع الجميع نحو استعادة سنوات الحلم القومي، لأن "نظرية الدور الإقليمي" "لمصر" نظرية أساسية، فمصر تعيش على التاريخ والجغرافيا معاً، كما أنها دولة مركزية محورية لا يمكن أن تلعب "دور المراقب" في مباراة حامية الوطيس لاعبوها إيرانيون وأتراك و"إسرائيليون" و"مصر" تجلس صامتة كأنها "أم العواجيز" .
* رابعاً: إن الذين يدرسون التاريخ جيداً يدركون أن الدهاء هو أحد أدواته عندما يعيد نفسه فجأة مع اختلافاتٍ طفيفة وربما من دون مقدمات ملموسة، والزعيم الحقيقي لابد أن يكون دارساً واعياً للتاريخ ملماً بتعرجاته وانحناءاته، فاهماً لأحداثه مستوعباً لدروسه، فالرؤية الحقيقية تتشكل من خلال دراسة التاريخ دراسة متعمقة لا تقف عند حدود متابعة سرد ما جرى ولكنها تتجاوز ذلك إلى طرح سؤالين مباشرين، هما لماذا كان ما جرى؟ وكيف حدث ما حدث؟ لاستخلاص العبرة وفهم فلسفة حركة البشر في إطاري الزمان والمكان .
* خامساً: إن البعد الاجتماعي هو ركيزة أساسية لتقييم الرئيس القادم، فالناس مازالت تتذكر "عبد الناصر" بسبب قضية البعد الاجتماعي واهتمامه بالطبقات الأكثر عدداً والأشد فقراً وإدراكه أن العدالة الاجتماعية هي بوابة الاستقرار و"رمانة الميزان" التي يزن بها الحاكم العادل في موضوعية وتجرد حجم الفقر في بلاده ويتمكن من مواجهته باعتباره هو "القنبلة الموقوتة" التي تضرب التنمية والديمقراطية معاً وتعصف بتطلعات الشعوب وأحلام الزعماء، فالمحتاج ليس حر الإرادة ولا قادراً على ابداء رأيه الحقيقي في صندوق الانتخابات، فضلاً عن خروجه على النسق المطلوب لتنظيم الأسرة والسعي نحو تحويل الكم السكاني إلى كيف يعمل في إطار روح تنموية مطلوبة .
فإذا كانت هذه هي المحاور الرئيسية لحركة "الرئيس الزعيم" أو حتى "الرئيس فقط" فإننا نلفت النظر إلى زاوية خاصة لرؤية المستقبل تكمن في أهمية التركيز على البعد القومي لمصر العربية لأن ذلك هو "الترياق" الأمثل لمواجهة "فيروس" توظيف الدين الحنيف لخدمة أهداف سياسية لفصيل أو حزب أو جماعة، فمصر قوية بأشقائها وتتعافى دائماً بدعمهم لأنهم يدركون على الجانب الآخر أن سقوط "مصر" لا قدر الله هو سقوط للمنطقة كلها، لأن الكنانة هي "عمود الخيمة" وركيزة الاستقرار، وقديماً قال البريطانيون (إذا عطست "مصر" "فالشرق الأوسط" مصاب "بالإنفلونزا") . . إننا نريد من الرئيس القادم أن يقرأ كثيراً وأن يتحدث قليلاً وأن يستمع دائماً حتى يكون على دراية بما يدور حوله، وأن يتحسس الرأي العام الحقيقي وأن يبتعد عن "جوقة النفاق" و"حملة المباخر" الذين يهرعون إلى الصفوف الأولى حتى يراهم الحاكم الجديد لعلهم يحجزون لديه مكاناً في المستقبل، وتبقى أهمية "الرؤية" دائماً، لذلك أصدرت في مطلع تسعينات القرن الماضي كتابي "الرؤية الغائبة" إيماناً مني بأن "الرؤية" هي الشعلة المضيئة التي تبدد ظلام العشوائية الفكرية والتخبط السياسي واختلاط الأوراق حتى لا يفلت منا مستقبل نريده لوطن نعتز به وأجيال قادمة ربما لا تزال في ضمير الغيب .

د . مصطفى الفقي
* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"