مئوية أكتوبر الروسية.. ماذا بقي؟

04:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود الريماوي

حسناً فعلت أغلبية الأحزاب الشيوعية العربية، التي احتفلت بصورة محتشمة بمناسبة الذكرة المئة لثورة أكتوبر الروسية، التي دشنت قيام الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية. ففي موطن هذه الثورة جرت أيضاً احتفالات بالمناسبة أقامها الحزب الشيوعي الروسي، مع استعداد للنقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء، وهو ما لا تعمد إليه نظيرتها الأحزاب العربية. ورغم أن القادة الروسيين الحاليين كانوا جزءاً من النظام الاشتراكي السابق والحزب الشيوعي الحاكم، إلا أن الدولة الروسية الجديدة، تجاهلت هذه المناسبة التاريخية ويُنسب لبعض قادتها القول إن وقوع تلك الثورة كان أمراً خاطئاً، وأعاق تطور روسيا.
لعقود طويلة خلت ارتبطت الأحزاب الشيوعية العربية الرسمية (بخلاف تنظيمات ماركسية أخرى) بموسكو وكانت تتلقى التعليمات منها. ولم يعد ذلك سراً. ففي مذكرات مبثوثة وليست مكتوبة للقيادي الراحل جورج حاوي جرى عرض هذا الأمر، كما أن تقلبات الحزب الشيوعي السوري وانشقاقاته أضاءت على ذلك الارتباط الوثيق، وحيث كانت موسكو تحدد لكل حزب شيوعي ما يتعين القيام به في موطن كل حزب، مقابل تسهيلات طبية ومنح دراسية وتثقيفية تمنح لكوادر كل حزب أو مناصريه.
ومع ما لعبته تلك الأحزاب من أدوار في مناهضة أحلاف غربية، وفي دعم مطالب شرائح العمال وفئات مهنية ومع ما تعرضت له من تضييق وتحريم لوجودها ثم اعتراف بهذا الوجود كما حدث في تونس والمغرب والأردن ولبنان، إلا أن هذه الأحزاب في مجملها لم تستطع توطين وتعريب أحزابها. وقد فعلت مثل ذلك حين تخلى بعضها عن الراية الشيوعية كما في أحزاب فلسطين (تحول الحزب فيها إلى حزب الشعب)، وتونس (إلى حزب التجديد)، وقبل ذلك في المغرب (إلى حزب التقدم والاشتراكية). وقد أمكن مع تغيير المسمى تخفيف الروابط مع المرجع الخارجي وهو موسكو، والاندغام بصورة أكبر مع الحياة السياسية الداخلية في مجتمعاتها.
ولا شك أن مسيرة ثورة أكتوبر الروسية قد أثارت أطروحات وسجالات عديدة حولها، غير أن الصحيح أن تداعيات هذه الثورة قد نقلت روسيا إلى مصاف الدول الكبرى، وأصبحت نداً للولايات المتحدة، أما في الخارج فقد كانت التداعيات مزيجاً من الرد على التغول الأمريكي والغربي إبان حقبة الحرب الباردة على دول العالم الثالث، ومن النزعة التدخلية السافرة كما حدث في كل من المجر (هنغاريا) 1956 وتشيكوسلافاكيا 1967، فضلاً عن التقييدات والقبضة الأمنية الشديدة التي تعرضت لها شعوب دول المعسكر الاشتراكي، وسن سياسات تمنع التطور الداخلي، وتجعل هذه الدول في حالة اعتماد كبيرة ودائمة على «الاتحاد السوفييتي».
وعلى مستوى أوسع فقد كانت الثورة الروسية شريكة للغرب في مواجهة النازية الألمانية وحليفتها الفاشية الإيطالية في الحرب العالمية الثانية، وهو ما أدى إلى تقاسم النفوذ بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي بعد أن وضعت تلك الحرب المدمرة أوزارها.
بعد مئة عام على قيامها وما أطلقته من وعود كبرى، تبدو الثورة الروسية الآن جزءاً من الماضي، ومزيجاً من الطوبى والنظام الشمولي الحديدي، مع تطلعات إنسانية باقية لإرساء العدالة الاجتماعية، وقد دأب القادة الاشتراكيون على الحديث عن أزمات الرأسمالية و«انهيارها المحتوم في عقر دارها» مُنكرين وجود أي أزمات داخل دولهم ومجتمعاتهم، حتى كان التغيير في موسكو مطلع التسعينات الذي كرّت بعده حبات سبّحة التغييرات في بقية دول المنظومة. بينما أبدت الرأسمالية مرونة في تجديد بُناها، وفي الاستعانة ببعض المفاهيم الاشتراكية (تأمينات العمل والبطالة والوفاء بخدمات أساسية كالنقل والتأمينات الصحية). وهي برامج تتفاوت من بلد إلى آخر، وتجد أفضل نماذجها في الأنظمة القائمة في شمال أوروبا (الدول الاسكندنافية) التي تجمع بين التقدم الصناعي والعلمي والرفاه الاقتصادي، والحريات العامة والفردية.
لم تبق أحزاب شيوعية حاكمة في عالمنا إلا في الصين وكوبا (مع عدم احتساب كوريا الشمالية). وقد وقعت تغييرات كبيرة في الصين بإدخال أنظمة الحياة الرأسمالية إلى السوق، ومع ضم رأسماليين ورجال دين إلى الحزب الشيوعي الحاكم هناك، بما يجعل منه حزباً قومياً وحزب الدولة وأداتها في ضبط الحياة الداخلية، ومنع بروز أية تعبيرات سياسية أخرى بحجة أن الحزب الحاكم يضم الجميع ويتسع لهم.. وحدثت أشياء مثل هذه في كوبا، مقابل نكوص الولايات المتحدة في عهدها الحالي عن التطبيع مع هذه الدولة، وهو الأمر الذي افتتحه الرئيس السابق باراك أوباما، وبما يضيق فرص تجديد الحياة الداخلية لهذه الدولة.
ومن المفارقة أن الحزب الشيوعي الروسي بات هو حزب المعارضة الرئيسي، بعد تاريخ طويل من تحريمه كل معارضة سياسية في هذا البلد، ونفي المعارضين إلى سبيريا. غير أن هذا الحزب خفّف من غلوائه الأيديولوجي، وبات يدرك بصورة ما أن الأنظمة الشمولية أيّاً كان مضمونها الأيديولوجي وبالُ على «نفسها» وعلى شعوبها، وليت الأحزاب العربية تدرك هذا الدرس وتقوم بتطبيقه داخل بُناها التنظيمية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"