الأمن العالمي في رحاب القوة الأمريكية

03:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

مثل أي مؤسسة تجارية تستغني عن جانب من عمالتها لمواجهة أزمة مالية قائمة أو محتملة، أو تحسباً لتراجع الطلب على خدماتها، قرر الجيش الأمريكي الاستغناء عن 40 ألفاً من جنوده وعناصره بحلول 2017 مع إلغاء 17 ألف وظيفة مدنية. وكما هو حال الشركات أعلنت وزارة الدفاع «البنتاغون» أن السبب هو ضغط النفقات، إلا أنها لم تذكر أن للقرار علاقة بتراجع الطلب على خدمات الجيش خاصة الخارجية.
بمعنى آخر يطرح القرار الذي أعلن الأسبوع الماضي افتراضاً مهماً للغاية هو أن الولايات المتحدة في طريقها لتقليص عملياتها العسكرية، وانتشارها المسلح في مناطق الصراعات في العالم. وأنها في سبيلها لتطبيق صارم لتوجهات رئيسها باراك أوباما بعدم الدخول في حروب خارجية جديدة والانسحاب من الحروب التي تورطت فيها، أي في العراق وأفغانستان.
هذا الافتراض له منطقيته لأن حجم الجيش الأمريكي بعد التخفيضات الجديدة في عديده سيصل إلى 450 ألف جندي مقابل 570 ألفاً خلال ذروة الحرب في أفغانستان عام 2012 وهذا هو أقل حجم للجيش من حيث عدد الأفراد منذ 1940 عندما لم يكن يتجاوز 270 ألف جندي.
الاستنتاج السابق الذي يذهب إلى وجود توجه لتقليل الاعتماد على الجيش كأداة لتحقيق السياسة الخارجية الأمريكية كان يمكن أن يكون صحيحاً، وينزل برداً وسلاماً على قلوب المحبين للسلام في العالم، لولا أن قرار الاستغناء عن الجنود جاء بعد أيام قليلة من إصدار "البنتاغون" ما عرف باسم الاستراتيجية الدفاعية لعام 2015. ومجمل ما جاء في تلك الوثيقة يتناقض تماماً مع أي استنتاجات إيجابية يتسرع المرء بالقفز إليها اعتماداً على قرار تقليص حجم الجيش.
تنص الاستراتيجية الجديدة بوضوح على أن القوة العسكرية ستظل ملاذاً مفضلاً لواشنطن لتنفيذ أهدافها وسياساتها الخارجية. وأن أي حديث عن السلام العالمي يعني من وجهة النظر الأمريكية احتواء التهديدات التي تواجه الأمن القومي، بصرف النظر عن تعارض التدخل العسكري في هذه الحالة مع مبادئ القانون الدولي أو سيادة الدول.
ويمكن الخروج بمجموعة من الملاحظات السريعة والمهمة بعد قراءة الوثيقة التي تقع في 24 صفحة، أولاها أنها لم تتحدث عن حروب استباقية أو ضربات إجهاضية كما فعلت إدارة بوش من قبل. إلا أنها في الوقت نفسه تحدثت بوضوح عن استخدام القوة العسكرية كلما كان ذلك ضرورياً لمواجهة التهديدات. وتعتبر أن مبررات اللجوء للقوة هي حماية الأمن القومي أو التصدي للتحديات الأمنية أو تعزيز المصالح الوطنية، وهي كلها تعبيرات فضفاضة للغاية تتيح اللجوء إلى استخدام القوة في أي وقت وتحت أي ذريعة.
الملاحظة الثانية هي التحول الذي أقرته الوثيقة في طبيعة ونوع الصراعات الخارجية التي باتت تمثلها دول بدلاً من تنظيمات. وتحدد ذلك بالقول إنه «في العقد الماضي تركزت الحملات والعمليات العسكرية في المقام الأول على الكيانات المتطرفة. إلا أنه في المستقبل المنظور يجب التركيز على التحديات التي تفرضها الحكومات (أي الدول) لأنه، والكلام للوثيقة، لدى هذه الحكومات وعلى نحو متزايد القدرة على الحركة والتهديد الإقليمي. وتشرح الوثيقة بعد ذلك مصدر تهديدات تلك الدول، مشيرة إلى انتشار الصواريخ الباليستية والقدرات الفضائية والإنترنت وإمكانات الضربات الموجهة.
ولكن ما هي الدول التي يمكن أن تمثل هذا النوع من التهديدات للأمن القومي الأمريكي؟ تجيب الوثيقة بأنها ثلاث دول، أولاها روسيا التي تتهمها بأنها لا تحترم سيادة جيرانها وتبدي استعداداً لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها، في إشارة واضحة للأزمة الأوكرانية. أما ثاني الأعداء فهي إيران وهي وفقاً للوثيقة تهدد جيرانها وتدعم الإرهاب. أخيراً كوريا الشمالية بسبب منظومة الأسلحة النووية والصواريخ التي تمتلكها ويصل مداها للأراضي الأمريكية.
أما الصين فلها وضع خاص ودقيق، فلم تعتبرها الوثيقة عدواً، ولكن لم تصنفها بالطبع كحليف، وأبقت على الخيط الرفيع الفاصل بين كونها شريكاً اقتصادياً ومنافساً إقليمياً من دون أن ينسى معدو التقرير التنديد بالتهديد الذي يمثله التحرك الصيني في بحر الصين الجنوبي.
وعلى الرغم من أن الوثيقة تعترف بمعادة كل تلك لدول وتهديداتها القائمة أو المحتملة للأمن القومي الأمريكي، إلا أنها تستبعد أن تسعى أي منها للدخول في صراع مع الولايات المتحدة أو أحد حلفائها. وهو ما يثير التساؤل عن طبيعة التهديد الذي تمثله ما دامت لا تستخدم ولا تنوي استخدام قدراتها الدفاعية ضد أحد؟
خلاصة ما يمكن الخروج به من المطالعة السريعة للوثيقة هو أن الاختلافات في السياسات التي يتبعها الرئيس الديمقراطي الحالي باراك أوباما، وتلك التي انتهجها سلفه الجمهوري جورج بوش الابن ليست جوهرية. أهم ما تكشف عنه الوثيقة هو أن رؤية الولايات المتحدة للعالم وحقها في إدارة صراعاته وتحقيق أمنها القومي بالطريقة التي تراها مناسبة لها، لم تتغير كثيراً بتغير الإدارات الحاكمة في واشنطن.
وتكاد تكون الخلافات لغوية فقط، السابقون فضلوا اللغة الخشنة الحادة، والحاليون يستخدمن لغة أكثر نعومة ودبلوماسية. ولكن يبقى الهدف واحداً في الحالتين: الحفاظ على الإمبراطورية الأمريكية، وعدم السماح بأي تهديد محتمل، أو حتى مجرد منافسة لهيمنتها من أي طرف كان، وإلا فالعصا لمن عصى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"