عالم تائه في حراسة منظمة هرمة

04:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
حسن العديني

‫‎‎‬في يناير/كانون الثاني 2017 سوف يتولى الأمم المتحدة الأمين العام التاسع «أنطونيو غريتريس».
قليل من الباحثين استرعاهم التغيير، على عكس التداولات السابقة للوظيفة، رغم أنه يجيء في ظروف احتكاك بين القوى الكبرى يضع العالم على حافة الهاوية.
ومع أن المنظمة الدولية لا ترقى إلى مثابة الحكومة العالمية، فإن دورها كجسر تواصل بين الدول كان مطلوباً، خصوصاً في مرحلة التوازن بين القطبين، حيث صعوبة تأميمها.
وكانت الحاجة إلى تنظيم أممي يحافظ على السلام الأمن الدوليين ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى، فأنشأ المنتصرون عصبة الأمم، لكنها فشلت في تحقيق الآمال المعلقة عليها، لأن أسباب الحرب التالية ألقيت بذرتها في المعاهدة المتمخضة عن سابقتها في فرساي، إذ إن شروطها المهينة للمنهزمين أيقظت روح التعصب القومي، فنشأت الأحزاب الشوفينية، وسرعان ما وصل موسوليني إلى السلطة في إيطاليا، حالماً باستعادة مجد روما، ثم لحقه هتلر مشحوناً بنزعة الألماني السوبرمان، وتعذر تقييد الرايخ الثالث عن النهوض بالصناعة الحربية، حتى تطير ونستون تشرشل، ووقف في البرلمان يصرخ محذراً من حرب يحضر لها الفوهرر. وصدقت مخاوفه، واندلعت الحرب لتصوب الرصاصة الأخيرة لعصبة الأمم. و بدا أن إقامة نظام عالمي جديد من لزوم المحافظة على السلام، وعلى الحياة في الأرض، فأنشئت الأمم المتحدة، وقبلها نظام بريتون وودز، من إدراك أن السباق على الثروات الاقتصادية تسبب بالحروب السابقة، ومن ثم لابد أن يترافق العمل على استقرار العلاقات الدولية للاطمئنان إلى أوضاع اقتصادية مأمونة، وتبادل للمصالح محسوب.
كان من أبرز ما ميز التنظيم الجديد أنه أقام على رأس الهيئة الدولية مجلس قيادة ضم خمس دول كبرى تتصدرها القوتان الأعظم، والنتيجة أن مفاتيح السلام والحرب وضعت في أيدي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ومن البداية انكشف عوار هذا التنظيم في تمثيل الصين بعد نجاح ماوتسي تونغ وحزبه الشيوعي في إتمام مسيرتهم إلى بكين، وانسحاب تشانج كاي شيك وحكومته إلى جزيرة فرموزا.
وظلت الصين الوطنية تشغل المقعد الدائم في مجلس الأمن إلى أن حسمت الولايات المتحدة قناعتها باستحالة معاندة الحقائق، وزار الرئيس نيكسون بكين في 1971 واعترفت واشنطن بجمهورية الصين الشعبية، ثم بصين موحدة بعد ذلك. لكن، هل نجحت الأمم المتحدة في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين؟
ظاهر الأمر أنه لا محاججة في ذلك، لأن حرباً ثالثة لم تقذف بحممها. وأما حقائق الأشياء فثمة جدال كبير حولها.
وأول ما يرى أنه لا فضل للأمم المتحدة في منع الحرب، والكابح الحقيقي تولد عن الفيزياء، وليس عن السياسة، ذلك أن اكتشاف قابلية الذرة للانشطار فتح آفاقاً للتقدم لم تكن في الحسبان. وفي فضائها سوف تغدو إمكانية الرفاهة متاحة بلا حدود، كما سوف تصير احتمالات الفناء البشري عظيمة النذر. وفي خضم الدم والدمار تسابق المتحاربون على صناعة القنبلة الذرية، وتمكنت الولايات المتحدة أولاً، وتبعها الاتحاد السوفييتي، وشيد «توازن الرعب النووي» سداً مانعاً للمواجهة بالسلاح بين القطبين، وارتدت الحرب طابعاً أيديولوجياً غلف التنافس على المصالح والمطامع.
كان هناك إلى جانب توازن الرعب توازن في السياسة، إذ أدى قيام كتلة عدم الانحياز إلى التخفيف من حدة الاستقطاب الدولي. وفي أعنف الأزمات ساهم هذا التكتل في نزع الفتيل ومنع اندلاع البركان، مثلما حدث في أزمة الصواريخ النووية التي نصبها السوفييت في كوبا. زاد إلى ذلك أن القادة الذين تولوا شؤون العالم في الفترة الممتدة من نهاية الحرب الثانية إلى سقوط جدار برلين اكتووا بنيران الحرب، أو تمرغوا في رمادها فأظهروا الحرص على تفادي الانزلاق إلى جحيمها. عزز ذلك صعود قوة الجماهير، ونشوء منظمات غير رسمية، وطنية وإقليمية، قارية ودولية، تعمل من أجل السلام وتكافح في سبيل التعايش بين الشعوب.
لقد شهدت قاعات وأروقة الأمم المتحدة مناقشات، هادئة وساخنة، بين القوى الكبرى بشأن قضايا طالما تحدت السلام، ولوحت بعواصف الحرب. لكن الاتفاقيات المهمة لم تبرم هناك فوق المنابر المفتوحة على العالم. وعلى سبيل المثال، فإن واشنطن وموسكو اتفقتا على التخلص من بعض الترسانة النووية بعد مفاوضات ثنائية، وجرى التوقيع على «سولت 1»، و«سو لت 2» في العاصمة الفنلندية «هلسنكي»، وليس في نيويورك، أو جنيف.
هناك ثانياً ما لا يجعلنا نطمئن إلى دقة مصطلح الحرب الباردة، لأن الصراع لم يتطور إلى صدام بالنار بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، ولا بين الدولتين الأعظم. وأما في خارجهما فقد نشبت عشرات الحروب بين الدول ومئات داخلها.
وقد نرى ثالثاً أن الصورة لم تقتصر على حروب بالوكالة، فقد انخرطت الدول الكبرى في حروب مباشرة فدخل الجيش السوفييتي المجر وتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان، وغزت الولايات المتحدة هايتي، واحتلت العراق وأفغانستان، واستولت بريطانيا جنوباً على الفولكلاند.
ثم إن أفصح التعبيرات عن الفشل أن مجلس الأمن المخول بممارسة القوة، لم يستطع استخدام هذا الحق إلا في حدود القدرة على الضعفاء، وبحسب ما ترضى به الدول الكبرى.
هل بسبب هذا كف المراقبون، وعفت الدول عن الاهتمام بمجيء أمين عام جديد للمنظمة الدولية؟
واقع الأمر أن الأمين العام لا يقرر بقدر ما يراقب، ويستقصي، ويوصي، والمشكلة الحقيقية في أن المنظمة الدولية تقادمت وتآكلت فاعليتها.
وقد تنذر التطورات الجارية على ساحات الحرب، في سوريا خصوصاً، بمفاجآت تلزم بالتفكير بأهمية صياغة نظام عالمي جديد بعهدة تنظيم مختلف.
مع ذلك، وبمفاجآت أو من دونها، فإن من لزوم استقرار العالم إنشاء هذا النظام الجديد، وقبل ذلك تصور أسسه ومداميكه وواجهاته، مع صرف الأنظار عن شخص الرجل القادم إلى الدور الثامن والثلاثين في المبنى الزجاجي بنيويورك، إذ لم يعد ممكناً أن يبقى العالم طويلاً في التيه، وأن يعلق مستقبل السلام على منظمة أصابها الهرم، وأدركها اليأس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"