ثقافة الغضب

04:12 صباحا
قراءة 5 دقائق

الغضب شعور إنساني طبيعي يتملك صاحبه إذا شعر بالظلم الفادح، أو رأى تناقضاً فاضحاً، ولقد قال أحد الأئمة الكبار (من استغضب فلم يغضب فهو . .) وغضبة الشعوب قوية وانتفاضتها كاسحة، ولا أعرف لماذا أتذكر الآن سؤال عميد الأدب العربي لتلميذه ناصر الدين الأسد بعد ملاسنة محدودة بينهما في خمسينيات القرن الماضي، لقد قال له العميد (أغاضب أنت يا ناصر؟) فرد عليه ذلك المفكر الأردني (بل أشد الغضب)، فهو إذاً، شعور مشروع لا ينتقص من الاحترام المتبادل ولا يدين صاحبه على الإطلاق، وأتذكر أنني سألت قداسة البابا عندما كنت موفداً إليه بعد حدث طائفي جسيم (أغاضبٌ أنت يا سيدنا؟!) فأجابني (بل حزينٌ من أجل الوطن قبل غضبي من أجل الطائفة)، من هنا فإنني أقول إن الغضب سلوك بشري، فلقد غضب الأنبياء والمرسلون، وغضب الصحابة وأمهات المؤمنين، وهل ننسى شعور السيدة عائشة بعد حديث الإفك وردها على نبي الإسلام وهو ينقل إليها القرار الإلهي ببراءة (الحميراء)، فأجابته في غضب (إنما برأني الله ورسوله) . أقول ذلك وعيني على الشعب المصري بسلوكه الغاضب أحياناً في بعض مراحل تاريخه الطويل، كما أن تعبير (جمعة الغضب) هو في ظني أكبر علامات الثورة الشعبية وأكثر دلالاتها إيحاء بالشعور المصري العام، ولكن للغضب في ظني ثقافته التي يجب أن تشيع فينا وأن تستقر لدينا، دعني أطرحها في الملاحظات الآتية:

* أولاً: إن الغضب في جميع الشرائع والأعراف نمط معروف من المشاعر يلزم صاحبه حدوداً لا يتجاوزها إذا أراد أن يمضي وراء مظلة الحياة، وأن يلتزم ناموس الوجود في العلاقات بين البشر . ولقد تعلمت من حياتي أن الغضب المنفلت يحمّل صاحبه وزراً قد لا ينتهي أبداً، لذلك فإن غضبة الشعوب يجب أن تتسم بالوعي الجمعي وأن تخرج من نطاق العاطفة الهادرة عند حد معين لكي تمر بعقل الأمة وضميرها بحيث يكون غضب الجماهير سنداً لها وليس خصماً منها، ونحن نؤمن بأن انفعال الجماعات يكون غالباً أشد عنفاً من انفعال الأفراد، ولكننا ندرك أيضاً أن العقل المشترك والضمير الواحد قادران على تعبئة الشعوب نحو الاتجاه الصحيح .

* ثانياً: إن الغضب المحسوب الذي يخضع لضوابط عقلية وانتماءات وطنية هو وحده القادر على تحريك الأمم والشعوب نحو الأفضل، فلكل عصر دعاته ورموزه ولكل وقت حساباته وطقوسه، ولا ينبغي أبداً أن يخلط اندفاع الجماهير بين ترف العاطفة وسطوة العقل، فنحن محكومون في النهاية بمبادئ وغايات وأهداف يجب أن نلتزمها .

* ثالثاً: إن الغضب الأعمى سلوك أحمق يجر صاحبه إلى موارد التهلكة، كما أن استمراء ممارسة الغضب ومواصلة المضي فيه سلوكاً لا يتوقف أو تعبيراً لا ينتهي، قد يؤدي إلى خروج المجتمع عن خطوطه العريضة، ويخلق زخماً واسعاً من العداوات، ويفتح باب تصفية الحسابات ويعطِّل في النهاية مسيرة الأمة، لذلك فإن الشعب الغاضب الذي اختزن المرارة لعشرات السنين وعرف معاناة البطالة والتهميش وذاق قهر الاستبداد، واشتّم رائحة الفساد، مطالب اليوم ورغم كل ذلك بعملية ضبط للانفعالات مع توظيف كامل للعقول المتميزة دون توصيف أو تلوين، فالوطن أولى بأبنائه، كل أبنائه .

* رابعاً: إذا كنا نتحدث عن الغضب فلنتذكر غضب السلطان حين يقصف الأقلام ويقطع الأرزاق ويهدد الأعناق، فويل لمن يذوق جبروت الطاغية وسطوته الدائمة، لذلك فإنني أجد أحياناً عذراً فيمن ينفلت غضبهم من المعذبين في الأرض أو يتجاوز رد فعلهم من عامة الناس، فمخزون الألم كبير ورصيد القهر أكبر .

* خامساً: لا ننكر حق صاحب العقيدة في الغضب من أجلها، ولا ننتزع منه التزامه مكانتها في وجدانه، ونرفض كل محاولات تشويه الحقائق أو لي الأذرع ونؤمن بأن غضب الإنسان من أجل عقيدته الدينية أو قناعته الفكرية أو هويته الوطنية هي أمور مشروعة لا نجادل فيها ولا نرفض وجودها، كما أننا نعترف بأن حجم المخزون لدى الشعب المصري من تراكمات العقود الأخيرة قد رسّب لديه مشاعر معقدة وانفعالات متداخلة، ولعل ذلك ينعكس حالياً على المشهد المصري كما نراه الآن .

. . هذه ملاحظات أردنا بها أن نقول إن الغضب ليس انفعالاً مطلقاً، ولكنه شعور إنساني تحكمه الضوابط أحياناً وتقوده الانفعالات دائماً، ولكن عندما تدلهمّ الأمور وتتكاثر الغيوم فإن صحوة العقل مطلوبة وإرادة الإنسان هي التي تقرر في النهاية طبيعة مشاعره ونوعية انفعاله، أقول ذلك الآن مطالباً بأن يكون للغضب المشروع الذي يجتاحنا جميعاً كلما راجعنا الماضي وشهدنا الحاضر، حضور قوي بيننا . إن ذلك الغضب طاقة سلبية هائلة ولكن يجب تحويلها إلى طاقة إيجابية مؤثرة تنظر إلى الأمام أكثر مما تنظر إلى الوراء، تتطلع إلى المستقبل أكثر مما تطعن الماضي على أن يترك الجميع لحكم القضاء وسيادة القانون الكلمة الفصل في نهاية الأمر، بحيث تتجه جهود الشباب نحو البناء والتعمير واستخراج الكفاءات الكامنة والخبرات المتاحة دون استبعاد أو إقصاء بلا مبرر قانوني أو سند أخلاقي، ولعلي أشير في هذا السياق إلى ثلاث ملاحظات مهمة:

* الأولى: ضرورة التزام الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب المفهوم العلمي للغضب والتعامل معه على أنه سلوك إنساني إيجابي وجزء من ثقافة المجتمع، وليس أبداً أداة للبطش أو التجريح أو الابتزاز .

* الثانية: أهمية ملء الفراغ السياسي الناجم عن سقوط بعض مؤسسات الدولة، وتركيز حملات الغضب تجاه بعضها على نحو قد يعصف بكيانها ذاته، ولعلي أشير في هذا السياق تحديداً إلى مؤسسة الشرطة ذات الأهمية البالغة في ضمان الأمن وكفالة استقرار الشارع المصري .

* الثالثة: إن المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية مسؤولتان أمام الضمير الوطني لهذا الشعب الذي يضرب فيه الدين بجذوره العميقة، أن تسعيا إلى التركيز على المستقبل وتبصير المؤمنين بأن مصلحة الأمة وتحقيقها هي واجب شرعي يجب الالتزام به والسعي نحوه، أما الاستسلام للغضب من دون خلفية فكرية أو مظلة ثقافية فلن يكون مجدياً على الإطلاق .

نظن مخلصين أن الغضب أمر متوقع في إطار التجاوزات التي بدأنا نسمع عنها ونقرأ بشأنها، ولكن ما يؤرقنا بالفعل هو أن يتحول الغضب إلى هدف في حد ذاته أو غاية تسبق غيرها، بينما الغضب وسيلة مشروعة في ظل ضوابط محددة تسعى إلى تحقيق أهداف معينة، لذلك فإننا نقول يا عقلاء الأمة تعالوا إلى كلمة سواء من أجل وطن نحبه جميعاً وأرض طيبة عشنا فوقها ونهر عظيم شربنا منه كلنا، أقول لهم إن اللحظة فارقة والظرف صعب والتحديات الخارجية والداخلية أكبر من أن تعرف، وأضخم من أن توصف لذلك فإن مستقبل مصر أمانة لا يمكن التخلي عنها أو الهروب منها أو المتاجرة بها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"