شيطان العنصرية في جنوب إفريقيا

03:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

بعد مرور أكثر من 22 سنة على نهاية نظام الميز العنصري، تواجه جنوب إفريقيا في هذه المرحلة التاريخية الحساسة والحاسمة، صعوبات كبيرة على مستوى بناء مجتمع تعددي وهوية وطنية منفتحة تجمع كل الأعراق والثقافات، فالصراع ما بين الأقلية البيضاء والأغلبية السوداء ما زال يرخي بظلاله القاتمة على المشهد الاجتماعي والسياسي في هذا البلد الإفريقي. وذلك تزامناً مع انتشار حالة من الاستقطاب العرقي الحاد تميّزها دعوات وأوصاف عنصرية مقيتة، يدعو بعضها إلى طرد البيض ويقوم بعضها الآخر بتشبيه السكان السود ب«القردة» إلى غير ذلك من التعبيرات العنصرية غير الإنسانية، الأمر الذي يفصح عن تردي خطر لأوضاع داخلية تتميز بارتفاع غير مسبوق لموجة الكراهية على مستوى قنوات التواصل الاجتماعي. ويحدث كل ذلك في سياق تزايد الصعوبات الاقتصادية والبطالة التي يعاني منها قسم كبير من أفراد المجتمع، لاسيما بين صفوف السكان السود الذين يمثلون الحلقة الأضعف، نتيجة لبلوغ نسبة الفقر والبطالة مستويات قياسية فاقت معدل 30 في المئة في بعض المناطق الداخلية المكتظة بالسكان.
وتتسبب هذه الموجة العنصرية الجديدة، في اضطراب وهيجان عرقي غير مسبوق داخل النسيج الاجتماعي الجنوب إفريقي، حتى إنه بات يخيل للكثيرين أن هذا البلد أضحى قاب قوسين أو أدنى من الدخول في صدام عنصري جديد من المحتمل جداً أن يتطور إلى حرب أهلية مدمرة، وذلك بعد سنوات قليلة من انتشار السكينة والهدوء وسيادة قيم التسامح التي وضع أسسها وشيّد ثقافتها المناضل العالمي نلسون مانديلا. حيث تشير الأحداث والتطورات اللاحقة إلى أن هذا الزعيم الإفريقي، استطاع بحكمته ونفاذ بصيرته أن يُجنب شعبه تبعات حرب أهلية مفتوحة بين الأعراق المتعددة من زنوج وبيض وملونين وهنود، وهي كلها عرقيات تشكل فسيفساء المجتمع الجنوب إفريقي. وقد تم مؤخراً على سبيل المثال، في سياق هذا التصعيد المتعلق بالصراع العرقي، طرد موظف من عمله لأنه ندّد بالتمييز الممارس ضد الأقلية البيضاء، وذهب موظف آخر إلى المطالبة بإجراء تطهير عرقي للبلد من البيض أسوة بما قام به «هتلر مع اليهود»، وهي الدعوة التي أثارت الكثير من الرفض والاستهجان لدى السلطات التي تخشى أن تفضي هذه الموجة الجديدة من العنصرية إلى تمزيق ما بقي من تجانس داخل النسيج الوطني.
ويرى الكثير من المتابعين للشأن الداخلي لهذا البلد، أن هذه الحالة المتفشية من اللاتسامح العرقي تشير إلى أن البلاد في حاجة ماسة إلى عمل ضخم وممتد من الناحية الزمنية من أجل أن تتحول المصالحة الوطنية إلى واقع حقيقي، بعد أن تبخّرت جرعة التسامح التي حقنها منديلا في جسد مجتمع، ما زال يختزل بداخله الكثير من الحقد والكراهية العرقية. ونستطيع أن نلاحظ في السياق نفسه، أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم والموجود في السلطة منذ سنة 1994، لم يتمكن حتى الآن من تخفيف حدة الصراع العرقي نظراً للإخفاقات الكثيرة التي حدثت على المستويين الاجتماعي والاقتصادي؛ لأن جنوب إفريقيا وبالرغم من كونها تعتبر من بين الدول ذات الاقتصادات الناشئة، وعضواً نشطاً في مجموعة البريكس، إلاّ أنها فشلت في تقليص الفجوة الكبيرة الموجودة داخل البلاد ما بين الأغنياء والفقراء، وذلك تزامناً مع عجز الحزب عن التحوّل إلى قطب سياسي جامع قادر على جذب كل مكونات المجتمع بصرف النظر عن الانتماء العرقي أو الطبقي.
وتسعى السلطة في سياق متصل، إلى دفع البرلمان إلى اعتماد مشاريع قوانين صارمة تعاقب الأعمال العنصرية التي تحث على الكراهية العرقية داخل المجتمع، وذلك في محاولة منها لمواجهة هذه الموجة العارمة وغير المسبوقة من الكراهية والحقد العنصري. وتهدف هذه القوانين إلى تسليط أقصى العقوبات على أولئك الذين يمجّدون سياسة الميز العنصري ويسعون من خلال سلوكياتهم إلى إرجاع جنوب إفريقيا سنوات إلى الوراء، في مدة باتت تشهد فيها البلاد انقساماً حاداً، بعد أن كانت العلاقات المجتمعية قد شهدت تحسناً كبيراً بين مختلف الأعراق في مطلع سنة 2000. ويعتقد بعض المختصين في الشؤون العرقية لهذا البلد، أن اعتماد سياسة قمعية ضد مروجي الكراهية لن يعطي بالضرورة النتائج الإيجابية المتوقعة، ومن غير المستبعد أن يُفاقم ذلك من حالة الاستقطاب العرقي في جنوب إفريقيا. وبالتالي فإن مؤسسة نلسون مانديلا تدعو إلى الاقتداء بحكمة زعيمها وملهمها مانديلا، وتؤكد أن المصالحة هي عبارة عن مسار وبناء روحي في حاجة لأكثر من إطار قانوني. ويجب العمل على تحقيقها في القلوب والعقول، وليس فقط على مستوى المدونات والنصوص القانونية، لأن المثال الديمقراطي الذي يحلم به الشعب لا يمكن أن يتحقق اعتماداً على المواقف المتصلبة التي تتبناها مختلف الأعراق، والتي تسيء بشكل كبير إلى التعددية وإلى قيم الاختلاف والتسامح.
ويمكن أن نزعم في نهاية هذه الإطلالة الإفريقية، أن شياطين الميز العنصري يمكنها أن تعيد جنوب إفريقيا إلى مرحلة من الصراعات أخطر من مرحلة «الأبارثايد» نفسها، لأن النخب السياسية ومعها الحزب الحاكم ليسا حتى الآن في مستوى حكمة وحصافة مانديلا الذي استطاع أن يجمع حوله القسم الأكبر من فئات الشعب على اختلاف أعراقهم، فالصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد تساعد على تأجيج مشاعر العنصرية وبخاصة لدى السود الذين هم أكثر عرضة من غيرهم للتهميش والفقر والبطالة. ولا مندوحة من الاعتراف إذن، بأنه لن يكون هناك انسجام مجتمعي وألفة وتسامح عرقي بين مختلف الأجناس والعرقيات، إذا لم تكن هناك عدالة اجتماعية تضمن للمواطنين الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي ومن العيش الكريم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"