رجوع الثقة عند الإنسان العربي

02:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

أين الشبه بين مراجعة الغرب لأحوال حضارته ولما وصلت إليه مجتمعاته في الحاضر وبين مراجعتنا للمآل الذي وصلت إليه حضارتنا ومجتمعاتنا العربية؟ إنه يكمن في فقدان الثقة في الأسس التي تكونت عبر تاريخ شعوب الحضارتين والتي تبنتها المجتمعات كمنطلقات تحكم حياتها وتوجه نشاطاتها لبناء مستقبلها.

الكتاب الغربيون الذين كتبوا عن تراجع أو انحطاط أو انتحار الحضارة الغربية وصلوا الى نتيجة مؤداها ان الإنسان الغربي قد فقد الثقة في التعاليم المسيحية (وعلى الأخص البروتستنتية التي نادت بالاعتماد على النفس وبقدسية العمل) وفي التفاؤل بالمستقبل (الذي آمن به الإنسان الغربي منذ قرنين عند بداية عصر الأنوار) وفي حتمية النمو المادي الدائم وفي المبادئ الليبرالية وفي الفردية وفي أنظمة الديمقراطية والرأسمالية، وهؤلاء الكتاب يطالبون الفرد الغربي بالعودة للإيمان والثقة في تلك الأسس. أي أنهم يطالبونه بالرجوع الى الطريق الذي هجر.

لا يختلف الأمر في بلدان العرب إلا في التسميات، أما الظاهرة فواحدة. والإنسان العربي فقد ثقته في العمل الإسلامي بعد أن انقلب إلى مشاحنات طائفية لا تنتهي وإلى حركات تكفيرية متطرفة وإلى عنف في حق الأبرياء. وفقد ثقته في الاستقلال والتحرر بعد أن رأى جيوش الاستعمار تعود لتحتل أرضه التي ضحت الملايين من أجل تحريرها وبعد أن رأى أشكالاً من الحكم الفاسد الظالم المرتهن لإدارة الأغراب. وفقد ثقته في وحدة وطنه بعد أن رأى تصرفات الوحدويين الانتهازية بعد استلامهم للحكم هنا أو هناك. وفقد ثقته في العمل السياسي المدني بعد أن رأى مؤسساته تمارس كل ما تدعي أنها تحاربه في الأنظمة المستبدة الفاشلة.

وفقد حماسه وتفاؤله وقدرته على الأحلام الكبيرة بعد أن ذاق مرارة الانتكاسات التي قلبت حياته إلى جحيم. ولقد كفر بالنظام الرأسمالي بعد أن غابت العدالة فيه، وبالنظام الاشتراكي بعد أن زورته بيروقراطية الدولة الفاسدة. واليوم، وقد هاله ما رأى من ممارسات خاطئة باسم الديمقراطية، يقف على اعتاب الكفر بها.

ومثلما لن تجدي مطالبة كتاب الغرب للإنسان الغربي بتجديد ثقته في أسس حضارته بسبب الانفصام وبعد المسافة بين النظريات والشعارات وبين الواقع الذي يراه امامه، واقع الرأسمالية الأنانية المتوحشة والديمقراطية التي سرقتها جماعة السطوة المالية والإعلامية وفوضى الحريات الفردية غير المنضبطة وتدمير البيئة وموت التضامن الاجتماعي وغير ذلك، فكذلك سيكون الحال مع الإنسان العربي. فلو ان بحار العرب كانت مداداً لكلماتهم وشعاراتهم فإنها لن تحرك وجدان وحماسة من يرى تلك الهوة السحيقة بين ما يقال وبين ما يقع.

نستطيع أن نضيف إلى المقاصد الإسلامية الكبرى (حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال) مقاصد مجتمعية أساسية من مثل الحرية والعدالة والمساواة وكثير من مكونات حقوق الانسان، ونستطيع أن نجعل الديمقراطية مكوناً أساسياً من مكونات الفكر القومي العربي، ونستطيع اجراء مراجعات جديدة كثيرة، وهي شرط يلازم ويسبق كل نهضة، ولكن ما لم توجد قوى مجتمع مدني، وعلى الأخص قوى سياسية، تناضل يومياً من أجل تلك المراجعات وقلبها إلى تحقق تراكمي في الواقع، فإن تلك المراجعات ستكون عبئاً لا طائل من ورائه.

مراجعة الغرب لحضارته مر عليها أكثر من قرن ومع ذلك فإن تغييراً جذرياً في وجهة مسار تلك الحضارة لم يحدث بعد، ومراجعة المكتبة السياسية الغربية تشهد بذلك، وعندنا مر قرنان من الزمن ومراجعات لا حصر لها ولا عد، في حقول الدين الإسلامي والفكر القومي والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد تمت، ولكن أحوال مجتمعاتنا تصعد وتهبط وتصبح عصيبة على الإقلاع الحضاري الكبير. والسبب واضح يكمن في الفشل في تكوين كتلة مجتمعية تاريخية تقوم بمهمة تقليص الفجوة بين القول والفعل، بين الأحلام والواقع، بين الشعارات وبين تطبيقها. رجوع الثقة عند الإنسان، في الغرب والشرق، تمر من باب الفعل بعرقه ودموعه وضحاياه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"