ما يفعله التطرف بالعقول والأمم

02:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
سلطان حميد الجسمي
على مر الأجيال تعتبر ظاهرة التطرف إحدى أخطر الظواهر البشرية التي تهدد حاضر البشر ومستقبلهم، وتؤدي إلى خسائر معنوية ومادية كبيرة. وأصبح تتبع هذه الظاهرة والقضاء عليها اليوم في قمة أولويات الأجندات السياسية في العالم، وذلك بسبب ما تمثله من خطورة كبيرة على كافة المستويات، وتطلق موجات من العنف والإرهاب والاعتداء على الأرواح والممتلكات والتخريب والتدمير وخلق الذعر والتهديد، ومحاولة التأثير على مصائر الدول والشعوب.
ويبدأ التطرف عود ثقاب صغيراً، ويكبر ليصبح ناراً مشتعلة متأججة تحرق الأخضر واليابس. فمصادرة المتطرفين لحريات الناس وهدر حقوقهم يقودهم في آخر المطاف لمصادرة حياتهم، وعدم الاعتراف بحقهم في الحياة، لأنهم لا يؤمنون إلّا بلون واحد قاتم من الأفكار والآراء. هي تلك الأفكار السوداء التي يعتنقونها، ويمارسون من أجل فرضها على البشر أشد أنواع الديكتاتوريات والوصاية، ويسبغون على أفكارهم الجهنمية صبغة مقدسة من وحي خيالهم، ولا تتسع صدورهم للنقد ولا التعدد إطلاقاً، ومن يخالفهم يرمونه في جحيم تكفيرهم، ويبحثون عن أقرب فرصة لسلبه حياته كما سلبوه حقه في الاختيار والإرادة والاختلاف.
وهذا النمط الأحادي المتطرف في التفكير يقود أصحابه إلى حالة من الانغلاق العقلي والتعصب وضيق الأفق وكراهية الآخر، ويجعلهم في وضعية مستمرة من العداء والصراع والاستعداد للتوثب وإشهار سيوفهم ضد طواحين الهواء، صباح مساء، والبحث عن البطولات الزائفة لإشباع طموحاتهم السلطوية.
والحالة العقلية لهؤلاء تذكرنا بقصة دون كيشوت الفارس الموهوم الذي أراد أن يقلد الفرسان ويثبت شجاعته عن طريق أعمال أقل ما يُقال عنها بأنها بطولات هزلية، فانطلق في مغامراته لمحاربة الأشرار مع فلاح بسيط يُدعى «سانشو» أقنعه دون كيشوت بأن يرافقه ويخدمه مقابل وعد هزلي، وهو أن يجعله حاكماً على إحدى الجزر التي سيفتحها، وصدّق الفلاح المسكين هذا الوعد الزائف، وفي الطريق رأى دون كيشوت طواحين هواء، فظن أنها عمالقة أشرار ذوو أذرع شيطانية طويلة، فقرر أن يخوض حرباً معهم، ويطهر الأرض من شرهم، وبالرغم من تحذيرات تابعه «سانشو» إلّا أن دون كيشوت أصر على الاستسلام لأوهامه وانطلق بكل قوة وحماس نحو الطواحين على ظهر حصانه، متوعداً ومزمجراً بملء صوته، وحمل على أقرب الطواحين إليه، وهو يحلم بالانتصار العظيم على الأعداء الأشرار، ليكتب اسمه في سجلات الخالدين، ولكن سرعان ما ثار الهواء وحمل الجناح الرمح وألقى بالفارس والحصان بعيداً وقد تحطمت عظامهما، ولم يتعلم دون كيشوت من هذه الحادثة المأساوية التي كادت تقتله، واستمر في رحلات البحث عن البطولات الزائفة.
ومع الفارق الكبير بين هذه القصة الأدبية والمتطرفين فهناك تشابه في بعض الأمور، فالمتطرفون يحتالون على أتباعهم بواسطة الوعود الكاذبة، ويغسلون عقولهم بالأحلام المزيفة، ويعدونهم بالسلطة والحكم وإعطائهم المناصب والأموال والنساء، ويقدسون زعماءهم ويحيكون حولهم بطولات الزور التي يتفاخرون بها أمام الأتباع السذج، وشتان بين البطولات الهزلية للفارس دون كيشوت والبطولات الدموية للإرهابيين المتعطشين للدماء وإزهاق الأرواح.
المتطرفون جامدون متحجرون عقلياً، يتعصبون لآرائهم، ويركضون وراء خيالاتهم، ويصمون آذانهم عن قبول أي تحذير، ويصرون على العيش في عالم الأوهام.
والتطرّف يهدد الأمم بشكل مباشر، ويهدم الإنسانية والتراث الإنساني، ويدمر الحضارات، وهو ليس منحصراً في دين معين أو قومية أو عرق أو لغة أو منطقة معينة، فالعالم على مدى التاريخ الطويل شهد أنماطاً مختلفة من التطرف على اختلاف الأديان والأعراق والقوميات واللغات والمناطق. ففي القرون الوسطى كان التطرف سائداً في أوروبا، وكانت الحروب الصليبية صنعت أمة أوروبية متعصبة متعطشة للدماء تخوض حروباً إرهابية ضد الشعوب الأخرى، لتمتص دماءهم وتزهق أرواحهم، ثم أعقب ذلك حركات النهضة والإصلاح التي سعت لإخراج أوروبا من العصر المظلم، وظهرت أنشطة تنويرية فلسفية واقتصادية واجتماعية ودينية لانتشال العقل الأوروبي من الانحطاط والتطرف، واستطاعت أوروبا أن تحقق نهضات تنويرية مختلفة، رافق ذلك انتكاسات كبيرة متكررة، كالحربين العالميتين الأولى والثانية وعودة الحملات الاستعمارية للمشرق العربي، حتى لقبت الجزائر وحدها ببلد المليون شهيد في مواجهة الاحتلال الفرنسي، ثم الحرب الباردة التي استمرت من الأربعينات حتى أواخر التسعينات، وصاحبتها أزمات وصراعات في الشرق والغرب.
واليوم أصبحت مناطق الصراع في الشرق الأوسط أراضي خصبة للتطرف بسبب الحروب الدائرة فيها، والتي يأمل العالم كله في أن يتم وضع فصول النهاية لها لعودة السلام والاستقرار إلى هذه المنطقة الاستراتيجية، فالإرهابيون يتعيشون على الحروب، ويجدون فيها أنسب الظروف للتمدد والانتشار والتخطيط لعملياتهم الإجرامية، وهو ما يعجل بضرورة إنهاء هذه الحروب، وإعادة تأهيل المنطقة، وزرع الأمل والتسامح لبناء مستقبل جديد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب في المجال السياسي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"