الفرد والمؤسسة في مصر

05:09 صباحا
قراءة 4 دقائق

تجاوز حجم الفرد حدوده وطغى على المؤسسة التي يقودها أو يديرها أو يمثلها، وأصبحنا أمام ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل، لأن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا المعاصرة ارتبط بهذه القضية وهي قضية العلاقة بين الفرد والمؤسسة في مصر، وقد ينظر إليها البعض باعتبارها مسألة إدارية بحتة بينما الأمر من وجهة نظرنا يختلف تماماً، فالقضية أكبر من ذلك وأشمل لأنها تتضمن العلاقة بين الفرد والجماعة، بين القدرة الشخصية على الإدارة أو القيادة في جانب، واستجابة الجموع لنمط معين منها في جانب آخر، ولقد ارتبط تاريخنا الحديث خصوصاً بعد ثورة يوليو 1952 بشيءٍ من ذلك، فاقترنت الإنجازات بفرد وارتبطت الحقب بشخص واختزلنا، بوعي أو بغير وعي، جميع إنجازاتنا، بل وكل جهودنا في وعاء يصب في مسار واحد هو الشخصنة إذ إن نموذج الرأس بالنسبة إلى الجسد قد تحول تلقائياً ليصبح هو النمط الذي يسود ويقود ولم نعرف إلا نماذج نادرة لذوبان الفرد في المؤسسة، وهو أمر يستدعي لديّ ما سمعته من الراحل العظيم زكريا محيي الدين أحد ثوار يوليو البارزين ونائب رئيس الجمهورية الذي أسس المخابرات العامة المصرية وكان وزيراً للداخلية ورئيساً للوزراء، وبرغم ندرة ما أدلى به من أحاديث وامتناعه الكامل عن إبداء آرائه في الآخرين، أو تقديم مذكراته للأجيال الجديدة، إلا أن الحظ، والحظ وحده، قد أتاح لي أن أجلس إلى الرجل ساعات عدة، وقد تجاوز وقتها الثمانين من عمره بعدما تلقيت اتصالاً هاتفياً من صديق يقول لي إن السيد زكريا محيي الدين سوف يتوقف في مطار فيينا حيث كنت أعمل سفيراً لبلادي وأن مدة بقائه سوف تستمر ساعات عدة في طريق عودته من إحدى المصحات في الجمهورية التشيكية، ورأيتها فرصة ذهبية لأني أحترم الرجل كثيراً وأقدر تاريخه الناصع، لذلك سعيت متحمساً إلى استقباله، وأمضيت معه ساعات عدة، حيث كانت بصحبته ابنته الفاضلة ورغم أن جسده كان واهناً إلا أن عقله كان متوهجاً وقد فتحت معه أحاديث طويلة خلال لقائنا بدأتها بالاستفسار منه عن سبب عزوفه عن كتابة المذكرات أو الإدلاء بالتصريحات، رغم أنه عاش حياة ثرية بالممارسة والعطاء، وكانت إجابة ذلك الرجل الهادئ الوقور هي أنه يترك للتاريخ وحده أن يحكم على الأفعال ولو بعد حين بدلاً من استباق ذلك بإصدار أحكام شخصية أو تبرير مواقف ذاتية، وأكبرت ذلك في الرجل وتسللت إليه من مداخل بدأتها بقولي إن الكل يدرك أن زكريا محيي الدين هو مسؤول العمليات ليلة الثورة وهو الذي وضع الخطة العسكرية للاستيلاء على المواقع الحساسة في الجيش والمضي في طريق الثورة، فرد الرجل في تواضع قائلاً إنه جلس مع البكباشي جمال عبدالناصر القائد الحقيقي للثورة ومجموعة من كبار الضباط الأحرار وأخرج لهم خريطة التحرك في المواقع المختلفة والتكليفات المطلوبة من القوات كل حسب مسؤوليته واستمع عبدالناصر وآخرون والتزموا بالخطة تماماً . وغادر زكريا محيي الدين مكان الاجتماع وعلم في ما بعد أن عبدالناصر قد قال تعليقاً على ما فعله زكريا محيي الدين من خطط وتوجيهات (إن زكريا يتوهم أنه قائد الثورة) . يحكي الرجل ذلك بلا تعليق ويتحدث عن عبد الناصر باحترام . وسألته عن ليلة التنحي وهل اختاره عبد الناصر بديلاً له لحرقه جماهيرياً فقال لي، إن السبب أن الرئيس تصوّر أن زكريا محيي الدين أقدر من غيره على التفاهم مع الأمريكان والتعامل مع المتغيرات الجديدة في ظل الظروف المعقدة بعد النكسة العسكرية لمصر والعرب . إنني أحكي هذه القصة لكي أوضح طبيعة الصراع بين الفرد والمؤسسة حتى في غضون أحداث ثورة وترتيبات حاسمة لتغيير ضخم جعل المسار المصري يتجه في طريق مختلف، ولنا ملاحظتان نسجلهما في هذا السياق:

الأولى: إن الفرد في بلادنا لديه شعور متضخم بالأنا يدفعه إلى أن يحيل المنصب إلى دومين خاص بالمفهوم الإقطاعي للعصور الوسطى، فهو صاحب القرار والكلمة العليا والمسافة بينه وبين الرجل الثاني أميال عدة، إنها طبيعة فرعونية تأصلت في أعماقنا ومازالت تمارس دورها على جميع المستويات، وباعتباري دبلوماسياً سابقاً فإنني أتذكر أننا كنا نقول خارجية محمود فوزي أو خارجية محمود رياض أو خارجية إسماعيل فهمي أو خارجية عصمت عبدالمجيد أو خارجية عمرو موسى حتى خارجية أحمد ماهر، والسبب في ذلك أن دور الفرد على قمة المؤسسة ينعكس على شخصيتها ويحدد مسارها، ويبدو أحياناً أقوى منها .

الثانية: إن أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011 التي كسرت حاجز الخوف، أسقطت معها إلى حد كبير مبررات طغيان الفرد على المؤسسة واستئثاره بالدور الكبير على حسابها، ونحن نتطلع إلى مزيد من التوازن بين الفرد والمؤسسة في المستقبل بحيث يتوقف طغيانه عليها وسيطرته على جميع أفرادها، وإذا تحقق ذلك فسوف نعدّه واحداً من أكبر إنجازات الثورة الشعبية المصرية التي اندلعت في 25 يناير 2011 .

إنني أريد أن أقول صراحة إن ذوبان الفرد في المؤسسة هو دليل تقدم وتعبير عن الاتجاه الصحيح نحو المستقبل، فإذا تأملنا المؤسسات الغربية فسوف نجد أنها تتميز بقدر كبير من الثبات والاستقرار، لأنها تقوم على تقاليد راسخة لا تتغير بتغير الأشخاص ولا تتأثر ببقائهم أو زوالهم، ونحن نتطلع إلى شيء من ذلك في بلادنا عندما تقوم المؤسسة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، على مقومات لها صفة الدوام والاحترام بحيث يكون دور الفرد في قيادتها دوراً ثابتاً ومحدداً لا يتأثر بالأهواء ولا بأنماط الشخصية ولا بالأجندات الذاتية، ويوم يتحقق ذلك نكون قد قطعنا شوطاً طويلاً نحو الحداثة وتشييد الدولة العصرية وتكريس دعائم النهضة المصرية .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"