ثورة المعلومات و”العالم السفلي”

03:49 صباحا
قراءة 5 دقائق

لا يتصور البعض أنني سوف أكتب هذه السطور للحديث عن تقنيات العصر وتكنولوجيا المعلومات، أو يتصور البعض أنني سوف أتناول موضوعاً ليست له طبيعة سياسية، فالأمر يختلف عن ذلك، إذ أثبتت الثورة المصرية الأخيرة في يناير/ كانون الثاني 2011 أن عالم الكمبيوتر وتوابعه وFacebook وأشباهه قد لعبوا دوراً خطيراً في تلك الثورة، وهو أمر التفتنا إليه جميعاً عندما حقق الرئيس الأمريكي باراك أوباما جزءاً كبيراً من شعبيته الانتخابية من خلال اللجوء المبكر لتلك التقنيات الحديثة .

ولابد أن أعترف بداية أنني أشعر أحياناً بالغربة نتيجة نقص مهاراتي في ذلك العالم بحكم العمر وغياب ذلك عني في سن التحصيل وأعوام الشباب ولقد لاحظت في السنوات الأخيرة أن تكنولوجيا المعلومات تزحف بسرعة على نواحٍ كثيرة متعددة من عالمنا المعاصر، فمن خلالها تتم عمليات البيع والشراء وعمليات الحشد والتجييش وعمليات تسريب المعلومات إلى الحد الذي يشوه الصورة أحياناً ويحسنها أحياناً أخرى، ولابد أن أعترف بداية أن تلك التقنية الحديثة قد تقوم بتجميع الملايين من شباب الإنترنت، ولكنها غير قادرة على صنع الزعامة أو خلق القيادة، ولعل ذلك يعبّر عن جزءٍ من مشكلة ثورة الشباب في ميدان التحرير حيث كانت الحشود الضخمة من دون زعامة حاسمة . . نعم توجد بعض القيادات المتناثرة ولكننا لم نجد قيادة تحوز إجماعاً أو ما يشبهه، وحتى تلك التي اقتربت من ذلك جرى التشكيك فيها وتسريب معلومات حولها . فنحن أمام عالم يلتقط المعلومة من مصادرها الجديدة، ولكنه لا يزال يستقبل الزعيم الحقيقي من التعامل المباشر والمقومات التقليدية لوسائل الاتصال المعروفة .

لقد شبهت ما يجري في عالم الإنترنت وتوابعه بالعمل السفلي عندما كان أجدادنا وآباؤنا يتحدثون عن عالم الجان، وذلك الجزء الخفي الذي لا نتعامل معه ولكننا نتأثر بأفعاله ونتحرك أحياناً وفقاً له، ولقد شعرت كثيراً بأن ذلك العالم السفلي يقوم بتحريك الرأي العام وخلق الصورة المطلوبة بل واغتيال الشخصية أحياناً، فالكم الهائل من المعلومات والتعليقات والحوارات قد جعل الحياة العصرية أكثر قدرة من ذي قبل على التواصل وصنع المؤثرات وتقديم الصورة على النحو الذي يريده لها أصحابها، ولعلي أبسط هنا بعض الملاحظات في هذا السياق:

أولاً: أظن ويشاركني الظن كل من يتابع تقنيات العصر أن تكنولوجيا المعلومات هي الانقلاب الضخم في عالمنا الحديث لأنها أحدثت نقلة نوعية كبرى في حياة الأمم والشعوب والمجتمعات مع اعترافنا بالفجوة الزمنية التي صنعتها بين الأجيال والتي أدت إلى تراكم المتغيرات بصورة غير مسبوقة . إننا الآن أمام تعبيرات جديدة مثل التجارة الإلكترونية والحملة الانتخابية الإلكترونية، إننا أمام عالم جديد يطل علينا من شاشات الكمبيوتر وتوابعه التي تتوالى حتى لا نكاد نكون قادرين على متابعتها خصوصاً لأبناء جيلي الذين لم يشهدوا في شبابهم تلك الثورة العلمية الكبرى .

ثانياً: إذا كان العالم قد تحدث منذ عقود عدة عن صراع الطبقات، ثم صراع القوميات، ثم صراع الإيديولوجيات حتى صراع الحضارات، فإننا اليوم أمام نمط جديد من الصراع وأعني به صراع الأجيال، ولقد بدا ذلك واضحاً في الثورة الشعبية المصرية الأخيرة، حيث ظهر جلياً أن الشباب هم وقود الثورة وزيت ضيائها المتوهج، بل إنني أظن أن الشباب المصري قد أحرج الأجيال التي سبقته عندما استطاع أن يحقق في أيام عدة ما فشل فيه سابقوهم عبر عقود عدة! وهنا أرى أن صراع الأجيال ظاهرة إيجابية لأنها تعني أن عجلة التطور تمضي إلى الأمام، وليس أحب إلى جيلٍ معين أكثر من أن يرى جيلاً يليه وقد تحققت فيه طموحاته، وتمت معه إنجازات سوف يعود جزء من فضل ذكرها إلى الجيل المعلم الذي بنى وليس فقط الجيل المنفذ الذي جنى .

ثالثاً: أشعر بصدق أنني قادم من عالم مختلف بل وينتابني إحساس بالعزلة تجاه ذلك العالم السفلي بما له وما عليه وهو شعور بأن الزمن قد جرى . فما زلت أتذكر عندما كنت أتردد في مطلع سبعينات القرن الماضي على مركز الوثائق البريطانية في لندن، حيث كنا نتعامل من خلال الفهارس المكتوبة للحصول على الوثائق المطلوبة عندما كنت أدرس الدكتوراة في العاصمة البريطانية، وأتذكر ما رأيته منذ سنوات قليلة عندما زرت ذات المركز بصحبة ابنتي الكبرى، وقدر الإحساس بالعزلة الذي شعرت به والغربة التي انتابتني أمام برمجة كل ما هو موجود وتحول الوثائق المكتوبة إلى وثائق إلكترونية لا يتم الحصول عليها إلا لمن هو ملمٌ بمبادئ تلك التقنية الحديثة، إنه شعور مزدوج الانفعال: السعادة للتقدم الذي أحرزته الإنسانية والحزن على أجيالٍ سابقة لم تستمتع بدنيا الإنترنت وملحقاته ووسائله الحديثة .

رابعاً: إن الحياة السياسية المعاصرة والعلاقات الدولية في العقود الأخيرة بل والنظم الداخلية أيضاً قد تأثرت ولا شك بالثورة التكنولوجية وتداعياتها الكبرى في عالم اليوم، ولعلنا نعترف الآن أن ظهور مجموعة من وثائق (ويكيليكس) في الشهور الماضية كانت تمهيداً متعمداً لثورات شعبية رائعة لأنها فضحت الأسرار الخفية، وطرحت ما كان خلف الأبواب المغلقة، وقدمت مادة وافية كشفت عن الفساد في كافة جوانبه، لذلك فإن تأثير العصر الإلكتروني في الحياة السياسية تأثير جلي لا ينكره أحد .

خامساً: إن مهارات الثورة الإلكترونية تفتح الأبواب واسعة أمام تطورات مذهلة في عالم البحث العلمي عندما تقدم نماذج للإنجاز في فروع العلم والمعرفة بدءاً من الطب والهندسة وصولاً إلى عوالم البيئة والمناخ والتربة، إننا أمام مفاتيح جديدة للمعرفة لم تكن متاحة منذ عقود قليلة مضت وعليه يجب أن نعترف أن الثورة الإلكترونية إضافة كبرى لمسيرة الإنسان في هذا العصر .

سادساً: إن التكنولوجيا الحديثة خصوصاً في عالم المعلومات تستطيع أن ترصد من الظواهر ما يتجاوز الحقيقة أحياناً أو يكون دونها أحياناً أخرى، فالFaceBook يستطيع أن يحشد الملايين ولكنه يظل عاجزاً عن اختيار قيادة لهم، ذلك أن الظاهرة الإنسانية أكثر تعقيداً من كل أدوات العلم الحديث لأن بها جزءاً من روح الإله سبحانه وتعالى الذي صنع الكون وخلق الإنسان .

سابعاً: إن الزعيم السياسي الذي يعتمد على مهارات التكنولوجيا الحديثة ويستخدم الثورة المعلوماتية ببراعة سيكون قادراً على اقتحام ميادين جديدة ليست متاحة لمن لا يستخدم تلك الوسائل ويتبع نفس الأساليب، لذا فإننا نظن مخلصين أن اللجوء إلى الوسائل التقنية الحديثة هو إضافة إيجابية لمن يستخدمه وضربة سلبية لمن حرم منه، إننا يجب أن نعترف أن الأمية الإلكترونية لا تقل خطراً عن الأمية الأبجدية، كما يجب أن نسلم بأن الذين تأخروا في ولوج ذلك العالم الجديد قد ارتكبوا خطأ كبيراً في حق أنفسهم ومستقبلهم الفكري والسياسي بل والإنساني أيضاً .

. . أريد أن أقول هنا وبوضوح ومن خلال الملاحظات السبع السابقة إننا أمام تطور مذهل قلب الأوضاع رأساً على عقب وأدخلنا في عالم جديد يبدو فيه كل شيء مختلفاً وكأنما نواجه دنيا سحرية خفية هي أقرب إلى عالم الجان منها عن عالم البشر، إنه حقاً عالم سفلي ذلك الذي نجح في تجميع الملايين في ميدان التحرير بصورة ليس لها نظير في تاريخنا كله! فقد أصبح الاستدعاء إلكترونياً والمعلومة خفية قد تفلت من أيدي الأجهزة الأمنية مهما كان جبروتها لأننا كنا أمام سباق في استيعاب التقنيات الحديثة، ولا شك أن الشباب أقدر على ذلك من سواهم . كما أننا يجب أن نشير هنا بوضوح إلى ذلك اليوم المشؤوم الذي عطل فيه النظام السابق كل الأجهزة الإلكترونية بما في ذلك الهواتف المحمولة تحت وهمٍ مرحلي بأن ذلك يجهض الثورة، ويوقف زحف الملايين! ولكن ذلك لم يحدث وانتصرت إرادة الشعب وتحركت الجماهير سواء من كان منهم محرضاً على الثورة أو خائفاً من النظام أو قلقاً على الوطن . . إنني أحمد الله أنني أيدت الثورة الشعبية منذ ساعاتها الأولى .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"