العوامل الخارجية والأوضاع الداخلية

04:22 صباحا
قراءة 4 دقائق

تؤكد كل الدراسات المعنية بالسياسة الخارجية أنها امتداد طبيعي للسياسة الداخلية وأن الارتباط متلازم بينهما، ومصر تحديداً نموذج بامتياز لهذه الظاهرة المعروفة في العلوم السياسية، والمحروسة كانت دائماً بحكم عبقرية زمانها ومكانها وسكانها محطاً للأنظار ومركزاً للاستهداف ومصدراً للضغوط الداخلية والخارجية معاً، ويعنيني في هذه السطور المقبلة أن أطرح قضية التلازم بين السياستين الداخلية والخارجية في مصر المعاصرة، ولعلي أفسر ذلك بالنقاط الآتية:

أولاً: إن مصر محمد علي، وفي غمار بناء الدولة العصرية الحديثة، تعرضت لضغوط أوروبية هائلة انتهت باتفاقية لندن عام 1840 التي قلصت الإمبراطورية المصرية وحجمت حكم أسرة محمد علي لتبقى له ولأولاده من بعده الخريطة المصرية الأصلية فقط بغير امتدادات شرقاً أو شمالاً . ومصر دائماً ينظر إليها الآخرون على أنها فيل كبير يجب حشره في حجرة صغيرة! وأنها كلما قويت امتد ذراعها إلى الخارج مثلما حدث في الدولة التوسعية ل محمد علي والدولة القومية ل جمال عبدالناصر .

ثانياً: كان العهد الملكي في مصر متوازناً في الارتباط بين السياستين الداخلية والخارجية، ففي عهد محمد علي تكونت رأسمالية الدولة ثم ازدهر النظام الإقطاعي في ظل أولاده بمنطق الشفالك والأبعاديات، وارتبطت الدولة الزراعية المصدرة للقطن بدولة الاحتلال البريطاني وغيرها من الدول الأوروبية في توافق بين ما يجري في الداخل وما يدور في الخارج حتى استسلمت مصر للضغوط الخارجية التي كان الاحتلال البريطاني عام 1882 أوضح تجسيد لها .

ثالثاً: عندما قام جمال عبدالناصر بثورته ذات الأفق القومي والبعد الاشتراكي اقترب تلقائياً من الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية حتى احتدمت المواجهة بينه وبين الغرب خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، وقد لعبت إسرائيل دوراً أساسياً في توجيه سياسات عبدالناصر الإقليمية والدولية، وكان طبيعياً أن يكون ما سماه بالاشتراكية العربية متناغماً مع علاقات وثيقة بالدول الشيوعية في وقته . ولقد دفع عبدالناصر ثمن سياسته التحررية من خلال الصدام الحاد مع القوى المعادية لدور مصري ممتد خارج الحدود .

رابعاً: عندما جاء الرئيس السادات وأراد أن يسلك طريقاً آخر كان عليه أن يقدم أوراق اعتماده للغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً من منطلق وطني ورؤية خاصة فبدأ سياسة الانفتاح الاقتصادي ذات الطابع الاستهلاكي، ثم الانفتاح السياسي بتنظيم المنابر التي تحولت إلى أحزاب سياسية في ما بعد، إذ لا بد أن تتفق سياسة السادات الداخلية مع امتدادها الخارجي مثلما كان الأمر بالنسبة لعبد الناصر وسابقيه .

خامساً: عندما جاء الرئيس السابق مبارك إلى السلطة وقد تحررت سيناء واختفت مراكز القوى خصوصاً في البداية لم يتمكن هو من استثمار الفرصة لبناء مصر القوية مثلما فعل الأتراك والكوريون وغيرهما في الفترة نفسها تقريباً، ولكنه أضاع الفرص ولم يفعل شيئاً متميزاً يُخلِّد ذكره سياسياً، بل اكتفى بأن يكون حارساً على الدولة ومديراً عاماً لشؤونها بدرجة رئيس جمهورية! فكانت بحق سنوات الفرص الضائعة، ولقد حاول الرجل أن يقيم توازناً في علاقاته بين الشرق والغرب دولياً ولكن كفة الغرب رجحت! ثم حاول أن يقيم توازناً إقليمياً بين العرب عموماً في جانب وأشقاء الخليج في جانب آخر ولكن كفة الخليج رجحت! مع إهمال غير مفهوم لملفات السودان ومياه النيل وإعمار سيناء وتطوير التعليم ومواجهة العشوائيات وقهر الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية .

. .إنني أهدف من هذه السطور إلى أن أُجَلِّي طبيعة الارتباط بين الداخل والخارج ودرجة التأثير والتأثر بينهما والمضي في تحديد العلاقة الوثيقة بين السياستين الداخلية والخارجية، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:

أ- أن السياسة الخارجية المصرية كانت ولا تزال مرتبطة بالدور الإقليمي للكنانة وتأثيره في مكانتها الدولية، فمصر تبيع سياسة محورية مؤثرة وتشتري وضعاً شرق أوسطيا متميزاً ودعماً عربياً معقولاً واقتصاداً نشطاً ومقبولاً .

ب- إن نظرة العرب لمصر تتميز بقدر كبير من التعاطف معها والتجاوب مع ظروفها ولكن برزت على الساحة في السنوات الأخيرة قوى صغيرة ذات إمكانات مادية هائلة تسعى لنقل مركز الثقل من القلب إلى الأطراف وتحاول أن تلعب دوراً، ولا تمانع في أن تنفذ أجندات لم تصدر عنها .

ج- إن الشعب المصري يدرك في أعماقه درجة تجانسه واندماج عناصره ولا يقبل بطبيعته الانقسام والتشرذم على النحو الذي بدأ يظهر حالياً على الساحة مع تزايد درجة العناد لدى الأطراف، وقديماً قالوا: إن العناد يورث الكفر . ونحن خرجنا أخيراً فقط من نظام كان يفاخر بأن لديه دكتوراه في العناد فلا داعي للتكرار . ولاشك في أن ما يحدث الآن هو أمر مؤقت كان لأن المصريين مزهوون بتاريخهم مغرمون بتميزهم الحضاري والإنساني على مر العصور .

د- إن الدين متجذر في مصر منذ فجر التاريخ لدى شعب اكتشف التوحيد قبل غيره وظل يمضي بالدين من خلال مفهوم الورع والعبادة أكثر من مفهوم الحاكمية والسياسة، فالفلاح المصري يصلي على ضفاف النهر الخالد في بساطة الخاشعين وزهد المؤمنين .

هذه قراءة عاجلة لتأثير السياسات الخارجية على الملفات الداخلية في ظل شارع مصري منقسم بين مؤيدٍ ومعارض، وديني ومدني، وهاهي مصر تنادي كل أبنائها بلا استثناء فهل من مجيب؟!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"