القدرة والقوة في العلاقات الدولية

03:19 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تعود الأسئلة المتعلقة بالقدرة والقوة في العلاقات الدولية لتطرح نفسها بحدة عند كل منعطف سياسي جديد يشهده العالم، لأن تصادم المصالح والصراع على النفوذ يفرض على الجميع تبني استراتيجيات قائمة على سلطة القدرة والقوة، حتى وإن كان الأمر يختلف من منطقة إلى أخرى، لأن هناك شعوباً عانت أكثر من غيرها من التوظيف المفرط لعناصر القوة القادرة، في مقابل شعوب وأمم أخرى صاعدة بدأت تكتشف للتو دلالات القدرة والقوة. ولذلك فإذا كانت أوروبا تتحفظ في مجملها على التوظيف غير المدروس للقدرة بعد خوضها لحربين كونيتين مدمرتين، فإن دولاً مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا لا تتردد في الغالب بالتلويح بالقوة والقدرة من أجل فرض تصوراتها والدفاع عن مصالحها على المستوى الدولي.
نلاحظ أنه في أغلب اللغات ليس هناك فرق واضح بين معاني مصطلحي القدرة والقوة، ويستعملان في الكثير من الحالات بالمعنى نفسه، بيد أنه وفي بعض اللغات ذات الأصل اللاتيني مثل اللغة الفرنسية، يشير بسكال غوشونإلى إلى أن لفظ القدرة يستخدم وفق دلالات مختلفة نسبياً عن لفظ القوة، حيث تحيل القدرة (بويسونس) في أصلها الاشتقاقي إلى السلطة التي تفيد هي بدورها «أني سيد على»، وبذلك تكون طبيعة القدرة أو المقدرة مرادفة لتحكم الإنسان في مصيره، وفي كل ما من شأنه أن يؤثر في هذا المصير داخلياً وخارجياً، وأن يحدّد الأهداف التي يجب عليه الوصول إليها، وأن يقدم الوسائل التي تسمح له بتحقيقها.
إن الغرض من القدرة هو توفير الحماية، أي حماية حياة الناس وميراثهم وأحلامهم ومعتقداتهم، من كل التهديدات المحتملة، والنقاش بشأنها كان دائماً ما يحدث في شكل مواجهة بين الواقعيين والمثاليين، بين دعاة مزيد من القدرة والقوة لردع قدرة الآخر وقوته، ومزيد من التدخل في شؤون الآخر لمنعه من التدخل في شؤونك، وبين دعاة الدفاع عن كوكب مسالم ومتجانس يسوده الوئام وتتقاطع فيه مصالح الجميع من خلال صيغ توافقية مستوحاة من شعار الليبراليين المستند إلى قاعدة «رابح - رابح».
يحيلنا مفهوم القدرة في العلوم السياسية، كما يشير إلى ذلك جان فرانسوا دورتيه في معجمه، إلى سلطة الدولة مقابل الدول الأخرى، وتقاس القدرة بالنسبة للمدرسة الواقعية بإمكانية الدولة على فرض إرادتها على المستوى الدولي بشتى الوسائل، وبخاصة الاقتصادية والثقافية التي تقدمت في العقود الأخيرة على الوسائل العسكرية، بعد أن باتت الحروب تدور على المستوى الاقتصادي والتقني في المقام الأول؛ وذلك ما دفع سوزان سترانج إلى الحديث عن مفهوم «القدرة البنيوية» الذي يشير إلى موقع الدولة في مجال الأمن والمعرفة والسياسة المالية، ولا سيما في عصر العولمة، ويصل المفكر الأمريكي جوزيف ناي في نهاية الأمر إلى بلورة مفهومه الأكثر تداولاً حول «القوة الناعمة».
ينوِّه برتراند بادي من جانبه بأنه في سياق الرؤية التي تبنّاها ماكس فيبر ذات الصلة بما بات يعرف بعلم اجتماع السلطة، فإن القدرة تشير إلى وجود حظوظ في تحقيق انتصار الإرادة الخاصة في إطار علاقة اجتماعية، ضد كل أشكال المقاومة، وذلك بصرف النظر عن كل ما تستند إليه هذه الحظوظ. ومن ثم فإن القدرة في سياق العلاقات الدولية تترجم حالة التنافس التي لا يمكن تجنبّها بين الدول القومية، وبخاصة في حالة الفوضى وضعف المشروعية القانونية، وتكون القدرة في مثل هذه الشروط، بمنزلة المبدأ الذي ينظِّم المنافسة بين الدول ويحدد العلاقة فيما بينها.
بيد أن كل أشكال القدرة المادية وغير المادية التي تحوزها الدول يجب أن تأخذ في الحسبان حسب برتراند بادي واقع أن العلاقات بين الدول صارت تخضع الآن لمنطق التبعية المتبادلة، وللواقع العابر للأوطان، وللتفاهمات القائمة على الاندماج الإقليمي، وزيادة على ذلك، فإن هناك حالات عديدة تعجز فيها القدرة عن تحقيق أهدافها، وفق ما أوضحه بادي في مؤلفه الموسوم: «ضعف القدرة».
لذلك فقد ميّز أرسطو بين القدرة كإمكانية والقدرة كفعل، بحيث تكون القدرة في الحالة الأولى في وضع خام يمكن وصفه بالدرجة الصفر التي ما زالت في حاجة إلى توظيف في سياق العلاقة بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل، تماماً كما يحدث بالنسبة للتمثال الذي يكون موجوداً بالقوة في الصخر، قبل أن يحوِّله النحات إلى وجود بالفعل بفضل الإرادة؛ إذ إن القدرة في حالات السلم والحرب تتعلق أولاً وقبل كل شيء بالإرادة التي لا يمكن تحقيق أي شيء من دونها، وبذلك فإن الفعل الواعي هو الذي يعطي معنى للأشياء من خلال امتزاج الإمكانية بالإرادة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"