نحو بلورة فكر قومي عربي جديد

02:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

ليست هناك مقولات ادعى للإهمال والاستخفاف هذه الأيام من مقولات القومية العربية والوحدة والفكر القومي وصولاً إلى مقولة العروبة ذاتها كرابطة تاريخية وثقافية.

ومن المفارقات أن الخطاب الرسمي والدبلوماسي هو الذي ما زال يتمسك ولو إعلامياً أو لفظياً بمقولات التعاون العربي والأمن القومي والجماعي، فيما تقهقر هذا الخطاب وذوى على ألسنة الحزبيين والنشطاء السياسيين حتى يكاد المرء لا يقع على وجود له.
وواقع الحال أن تفسخ أحزاب قومية، وتراجع الحركات الناصرية واختفاء بعضها في لبنان ومصر، وفشل محاولات إحياء حركة القوميين العرب بعدما تخلى مؤسسوها عنها لمصلحة فكر يساري، جعل من فكرة العروبة بغير حامل تنظيمي وعقائدي لها.
ولعل الأجيال الجديدة لا تستشعر هذا الغياب، إذ لم تشهد ازدهار الحركات القومية حتى وقت متأخر من القرن الماضي، فيما تفتح وعيها على تضخم فكرة الدولة القطرية، وعلى التيارات الداعية للديمقراطية أو حقوق الإنسان أو تلك الجماعات التي ترفع رايات طائفية صريحة تضع فيها الطائفة محل فكرة القومية بل محل الدين الجامع نفسه.
وكذلك على مطالب الأقليات بحقوق لها مثل الأكراد في المشرق والأمازيغ في شمال إفريقيا.
ومع ما يبدو من اضمحلال الفكرة القومية فإن الجماعة القومية (العرب) تتضخم عدداً، وتتوطد دولها، وتزداد الموارد مع ازدياد الفقر، وتحضر هذه الجماعة الكبيرة في العالم على هيئة جاليات بالملايين، ويتسع حضورها ليشمل القارات الست في عالمنا، وليحتل موقعاً في اهتمامات الرأي العالم العالمي.
إن هذا الحال هو أشبه بحال الأمة الكبيرة المتفرقة التي ما زال أفرادها يستشعرون مدى الوشائج بينهم، لكن هذه الوشائج لم تعد مؤطرة بطموح جامع لهم، إذ حلت الفروق والارتباطات مع الآخرين وتضارب المصالح محل ما هو مشترك بينهم.
والبادي أن الآخرين هم ما زالوا بدرجة أو بأخرى يستشعرون وجود كتلة قومية كبيرة تدعى العرب، بأكثر مما يستشعر ذلك العرب أنفسهم.
وهو ما يتبدى في الخطابات السياسية والثقافية والإعلامية لمراكز وهيئات دولية عديدة.
فيما تتعاظم الاهتمامات الخاصة بكل دولة ومجتمع عربي، وهو ما قد يلحظه المرء في تصفح مطبوعات وصحف تصدر في بلدان عربية عدة، حيث يطغى الشأن المحلي لدرجة يكاد يختفي معه الشأن القومي عن أي اهتمام.
ما يجعل السؤال أو التساؤل مشروعاً حول ما بقي من العروبة؟
بقيت الجامعة العربية وبعض منظماتها غير النشطة.
وبقيت مؤسسة القمة.
ومؤخراً وفي القمة الأخيرة تم التوصل إلى إقرار بناء قوة عربية مشتركة.
وبقيت الاتحادات العربية وبعضها مستقل وبعضها الآخر يحظى بدعم الجامعة، والمقصود الاتحادات المهنية كاتحاد الأطباء والصيادلة والمحامين العرب والصحفيين والأدباء العرب وغيرها.
وواقع الحال أن الدول التي تسمى قُطرية في الفكر القومي وخاصة الفكر البعثي الغابر، هي التي ما زالت تحافظ على هياكل الفكرة القومية ومرافقها ومؤسساتها، بينما تتراجع مؤسسات شعبية مثل البرلمان العربي ومؤتمر الأحزاب العربية ناهيك عن الائتلافات الحزبية المندثرة.
في واقعنا الأكثر حسية ثمة تحالف عربي سياسي عسكري يضم عشر دول على الأقل من المشرق والمغرب العربي، يخوض حرب «عاصفة الحزم» ومسماها اللاحق «إعادة الأمل»، ومعظم هذا التحالف ينخرط في التحالف الدولي ضد «داعش».
وعلى المستوى الدبلوماسي ثمة المجموعة العربية التي تنشط في الأمم المتحدة وتمثل أفضل صيغة عمل عربي جماعي وتكسب احترام العالم.
أجل إن الدول تضع مصالحها وأمنها الذاتي قبل أي اعتبار آخر في رسم سياساتها وصوغ استراتيجياتها.
غير أن هذه الدول حافظت على الحد الأدنى من الروابط القومية، فليس هناك على سبيل المثال من يفكر مجرد تفكير بإلغاء الجامعة العربية، أو الانسحاب منها.
أو التوقف عن عقد القمم الدورية.
ومغزى ذلك أن الحد الأدنى من الروابط القومية هو الذي صمد، بينما ذهبت الطموحات القومية الكبيرة أدراج الرياح لافتقادها إلى مداخل واقعية، ولأن الدول والأنظمة التي حملت راية الفكر القومي خصوصاً في العراق وسوريا لم تنجح في الحفاظ على وحدتها الداخلية وعلى الروابط بين أبناء الشعب الواحد، مما جعل أطروحاتها وبالأحرى شعاراتها القومية الفضفاضة مجرد غطاء للتستر على الإخفاق الداخلي المريع في بناء دولة حديثة.

هناك حاجة الآن لبلورة فكر قومي جديد ينأى عن المطلقات ويراعي الخصوصيات الوطنية ومنطق العصر القائم على التعددية الثقافية في المجتمعات وداخل المجتمع الواحد، والإيمان بفكرة الديمقراطية والولاء الحقيقي لمبدأ حقوق الإنسان والشعوب، ونبذ الإرهاب والعنف أياً كانت مصادره ولبوسه وشعاراته بما في ذلك الذي يصدر عن الأنظمة، ومناوأة الطائفية المقيتة مع احترام حقوق الطوائف والأقليات الدينية، وانتهاج خطط تنمية شاملة مستدامة، والإفادة من تجارب العصر وعلى الأخص التجربة الأكثر نجاحاً المتمثلة بالاتحاد الأوروبي والصيغ الآسيوية للعمل المشترك.

العرب ما زالوا عرباً رغم كل شيء.

ولأن لم تجمعهم الروابط المعنوية التاريخية والثقافية واللغوية، فإن مصالحهم كإقليمٍ كبير تجمع ما بينهم.
التحدي الصهيوني الدائم والاختراق الإيراني لكيانات ومجتمعات عربية واستشراء الطائفية، هذه العوامل وغيرها تملي بلورة مثل هذا الفكر الذي يستجيب لتحديات الحاضر، ورهانات المستقبل التي تهجس بها القوى العربية الحية المعتدلة والمتنورة في كل مكان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"