مسيحيو الشرق والإدارة الأمريكية الجديدة

02:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
أسهم صعود التيار الشعبوي، وقوى اليمين في أوروبا، وفوز ترامب بمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة، في عودة الاستثمار السياسي والإعلامي لمعاناة المسيحيين في دول المشرق العربي. وتشير الكثير من المؤشرات الدولية إلى أن هذا الملف مرشح خلال الشهور المقبلة لأن ينال حظاً كبيراً من التوظيف السياسي من قبل بعض القوى الغربية، التي تسعى إلى إعادة التموقع في منطقة الشرق الأوسط. ومن غير المستبعد أن يمثل هذا الملف، إحدى أوراق المساومة في الصراع على النفوذ في المنطقة بين روسيا والدول الغربية الكبرى، بقيادة واشنطن. ويهدف هذا الاستثمار غير البريء إلى قطع ما تبقى من خيوط الترابط داخل النسيج الاجتماعي في دول المنطقة، من أجل تشجيع التوجهات الطائفية الهادفة إلى خلق كيانات دولوية قائمة على أساس العرق والطائفة والدين.
ويذهب الكثير من المراقبين لأوضاع المنطقة العربية إلى القول إن هناك سعياً حثيثاً من قبل بعض الأطراف الإقليمية والدولية، لغرض توظيف الاندفاع السياسي والقفزات البهلوانية للإدارة الأمريكية الجديدة من أجل إعادة وضع ملف أوضاع المسيحيين بالمشرق في واجهة المشهد السياسي الدولي، ليس بغرض الدفاع عن حقوق المسيحيين المشروعة، وعن وجودهم التاريخي المعترف به من قبل كل الأطراف، ولكن بهدف إعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة تهدد المستقبل السياسي للدول الوطنية. ويعتزم بعض المدافعين عن قضايا المسيحيين في الشرق مطالبة الإدارة الأمريكية الجديدة، بتنظيم مؤتمر عالمي للدفاع عن المسيحيين في المشرق، برعاية المنظمات والجمعيات المسيحية المعتمدة في الولايات المتحدة، من أجل وضع المسيحيين في المنطقة ضمن الأولويات الرئيسية التي تريد واشنطن التركيز عليها في ما يتعلق برسم سياساتها المستقبلية في الشرق الأوسط.
ونستطيع القول إن تزامن عودة الاهتمام بأوضاع المسيحيين في الوطن العربي، مع تزايد النفوذ السياسي للتيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة، لا يعد مؤشراً إيجابياً بالنسبة لرهانات ومصير التعايش التاريخي بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة؛ لأن السعي إلى فصل معاناة المسيحيين عن معاناة إخوانهم المسلمين المنتمين لمختلف الطوائف، لا يخدم قضايا أبناء المنطقة على اختلاف أعراقهم وانتماءاتهم الدينية، بقدر ما يسهم في تحويل ملف مسيحيي المشرق إلى ورقة ضغط في أيدي القوى اليمينية ذات التوجهات الاستعمارية، ومن غير المستبعد أن تسيء كل هذه التحركات إلى الميراث النضالي والقومي للمكوّن المسيحي في المنطقة العربية.
من الواضح تأسيساً على ما سبق، أن هناك تحركات غير بريئة تقوم بها قوى اليمين الغربي من أجل ادعاء الدفاع عن الوجود المسيحي في الشرق، حيث تحوّل هذا الموضوع إلى ورقة للمزايدة الإعلامية من طرف بعض السياسيين في أوروبا، فقد قام فرانسوا فيون زعيم يمين الوسط والمرشح الرسمي لانتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة، بالحديث أثناء حملة الانتخابات التمهيدية، عن الدور التاريخي لفرنسا في الدفاع عن مسيحيي الشرق، والخطاب نفسه جرى الترويج له مع بداية أزمة اللاجئين في بلدان وسط أوروبا. وتجري الآن دعوة ترامب إلى تركيز جهوده على أوضاع اللاجئين المسيحيين مع الحرص على فصلهم عن بقية إخوانهم اللاجئين الذين يدفعون فاتورة «الفوضى الخلاقة» التي دشنها جورج بوش الابن في العراق منذ سنة 2003، وهي الدعوة التي لقيت استجابة واضحة مع إعلان الرئيس الأمريكي الجديد، أن الأولوية في ما يخص طلبات اللجوء سوف تعطى مستقبلاً للمسيحيين السوريين.
وما يزيد من احتمالات التوظيف التدميري والخطر لمعاناة مسيحيي المشرق، هو الاعتماد الكبير لإدارة ترامب على مجموعة من المستشارين غير المحايدين، في ما يتعلق بصياغة الخطوط العامة للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وقد يكون وليد فارس مستشار ترامب نموذجاً معبراً عن الشخصيات المسيحية التي سيكون لها دور مؤثر في قرارات ترامب الشرق أوسطية. لاسيما وأن فارس كان من المنظرين لتحويل «القوات اللبنانية» من ميليشيا إلى جيش مسيحي، وكان من المدافعين عن فكرة الفيدرالية وعن الخصوصية المسيحية في لبنان، كما أن علاقته ب«إسرائيل»، وباللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لا تحتاج إلى تأكيد. وكان جوني ميسو رئيس الاتحاد السرياني العالمي، الذي تربطه علاقات قوية بمستشاري ترامب، قد عبّر في سياق متصل، عن قناعته بأن إدارة البيت الأبيض الجديدة ستقدم دعماً أكبر لمسيحيي المشرق مقارنة بإدارة أوباما السابقة، وكشف جوني عن وجود اتصالات جدية من أجل إقامة منطقة حكم ذاتي للمسيحيين والإيزيديين والتركمان شمال العراق.
ومن الصعب أن نغفل في هذا السياق الذي تفوح منه رائحة التبن، محاولات بعض الأطراف الغربية والصهيونية، اللعب على وتر الاستقطاب الطائفي في مصر في محاولة لتوظيف مسألة العلاقة بين الأقباط والمسلمين في مصر من أجل تهديد الوحدة الوطنية للدولة المصرية، وابتزازها في الكثير من القضايا السياسية الحساسة المتعلقة بالأمن القومي لدول الشرق الأوسط؛ وعليه فإنه وبعد أن سعت القوى الغربية إلى القضاء على التنوع الديني والطائفي والعرقي، وعلى الفسيفسائية الجميلة والمتوازنة التي كان المشرق العربي ينفرد بها، وبعد دعمها للتطرف ولحركات الإسلام السياسي، نراها تسعى في هذه المرحلة التاريخية المفصلية، إلى جعل معاناة المسيحيين العرب حصان طروادة من أجل تقويض ما بقي من انسجام وتعايش سلمي ما بين المكونات المجتمعية للمشرق العربي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"