تعددت الطرق والتيه واحد

05:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

أغلب الناس في هذا العالم، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات أم دولاً، يميلون الى الهرب من ارتياد الطرق الصعبة وإلى تفضيل ولوج الطرق السهلة حتى ولو كانت الأخيرة أقل كفاءة. والأمر نفسه ينطبق الآن على تصرفات الكثير من حكومات الأقطار العربية. فارتياد طريق التضامن والتوحد القومي ممثلاً في المؤسسة القومية العربية المشتركة، جامعة الدول العربية، هو على مدى المستقبل المنظور طريق واعد، يزخر بإمكانات هائلة ويستطيع إيصال هذه الأمة بكفاءة الى حل كثير من قضاياها الكبرى. لكن هذا الطريق يترك مهملاً، مليئاً بالأشواق والحجارة والقاذورات، مسدودة كل منافذه، وبالتالي غير صالح للاستفادة منه، بل إن الذي يسلكه لا يجني غير نظرات الازدراء وغير اليأس من عروبته.

في هذا المأزق القومي، مأزق ترك الجامعة العربية كسيحة عاجزة تعاني شح الإمكانات البشرية ومن قلة المال ومن تقييد اليدين ومن مساعدتها بمنة وازدراء، في هذا المأزق يمكن تفسير التوجهات الجديدة لمختلف الحكومات العربية نحو ولوج سراب الطرق الأخرى، سراب الأمل بوجود الحلول لقضايانا في نهاية تلك الطرق الطويلة المتعرجة.

من هنا التوجه نحو طريق التجمع الأوروبي المتوسطي الذي يضم دول شاطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالي الأوروبية ودول شاطئه الجنوبي العربية وغير العربية، وسواء أكان ذلك التجمع تحت عباءة برشلونة الإسبانية أم كان تحت عباءة ساركوزي الفرنسية، فإن الأيام أثبتت عبر حوالي عقدين من الزمن، وستثبت لمن يفضلون عطش السراب، أن أوروبا قد قررت منذ القرن السادس عشر بأن البحر الأبيض المتوسط سيبقى الى الأبد بحيرة أوروبية في الدرجة الأولى، وأن ما يخدم مصالح أوروبا ستكون له الأولوية، وأن مصالح الآخرين ستؤخذ بعين الاعتبار فقط عندما تكون مكمّلة ومغنية للمصالح الأوروبية ولمصالح حلفائها من أمثال القلعة الصهيونية المتقدمة للاستعمار والنفوذ الغربي في أرض فلسطين.

من هنا أيضاً حماقة الاعتقاد بأن مصالح الأمة العليا ستكون تحت عباءة اتحاد الدول الإفريقية. ذلك أنها عباءة رثّة مملوءة بألف ثقب وتحتاج لمن ينشلها من الوحل الذي يوقعها فيه ألف دجال وألف صاحب مصلحة مرتبطة بأمريكا وبأوروبا وبغيرها.

من هنا أيضاً المشاريع التي تطرح بمختلف التسميات وهي ليست أكثر من أصباغ جديدة لنفس العباءة: عباءة الشرق الأوسط الصغير أو الكبير أو الجديد، عباءة الولايات المتحدة الأمريكية التي تخبئ في أحد أركانها المظلمة الوليد الصهيوني الوحش.

من هنا الانخراط في عمليات عبثية مضحكة في كامب ديفيد وشرم الشيخ وأنابولس وموسكو وباريس وأوسلو ومدريد، فلعل هذه الجهة أو تلك، ذلك المتصدق أو ذلك اللئيم يفتحون لنا الطريق الذي نطلب، طريق حلّ قضايانا الكبرى.

من هنا تضيع الأيام والسنون بل والقرون، فمن يدري، ونحن نترك الجامعة العربية، الطريق الذي يحتاج الى تنظيف وتعبيد ورعاية، في وضعها المزري الحالي، بل في تيهها الحالي. وإلا فكيف نفسر أن ينبري أحد مسؤوليها ليصف المشروع الوليد الأخير المطروح في الساحة العربية والداعي لتكوين كتلة عربية إسلامية صهيونية (مشروع شرق أوسطي جديد لم توضع له صفة بعد)، يصفه بأنه عميق ويحتاج لمن يفهمه (لا بد أن هناك عبقرية في هذه الدنيا قادرة على القفز فوق التاريخ وفوق مشاعر الأمم وفوق أوجاع الضحايا، لا نملكها نحن البسطاء).

طريق حلّ قضايا الأمة الكبرى موجود، وسلوكه ممكن، وإصلاحه متيسّر لمن يريد أن يتوقف عن ممارسة الأحلام البليدة ويمشي بدلاً من ذلك في الطرق الموصلة الى القمم، حيث تسكن الصقور، لا العصافير الخائفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"