دهاء الماضي وغموض المستقبل

04:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .مصطفى الفقي
يعيد التاريخ نفسه بشكلٍ لا يخلو من مفارقاتٍ عجيبة وأحداثٍ غير متوقعة، فلقد كتب أستاذ الفلسفة المصري الشهير "د .فؤاد زكريا" مقالاً منذ عدة سنوات جعل عنوانه (دهاء التاريخ) وذلك لمناسبة مرور مئتي عام على قدوم "الحملة الفرنسية" لمصر، وظهور بعض الكتابات التي ترى أنها كانت "حملة عسكرية" بقصد الاحتلال أكثر منها حملة ثقافية بقصد التحديث، وقد عقد "د .فؤاد زكريا" مقارنةً بين تلك "الحملة الفرنسية" وحملة "مصر الناصرية" في "حرب اليمن"، نظراً للتشابه بينهما في مسألة "التحديث" والانتقال إلى العصر الذي كان يجب أن تعيش فيه مصر في مطلع القرن التاسع عشر و"اليمن" في ستينات القرن العشرين . وقد اكتشف ذلك الفيلسوف المصري الكبير أن "حركة التاريخ" تكشف أخطاء الشعوب وتفضح ازدواج المعايير ومنهج الكيل بمكيالين على حساب الحقيقة الواحدة في معظم الأحوال، أقول ذلك بمناسبة ما نراه حولنا من أسباب للقلق وعوامل لا تدعو إلى الارتياح، فنحن نمضي على "خريطة المستقبل" وقد قطعنا فيها شوطاً لا بأس به بإقرار دستورٍ للبلاد، ونتجه جميعاً إلى "الانتخابات الرئاسية" حتى يصبح لدينا "رأس للدولة" يقود البلاد إلى الأفضل، ولكن "الغموض" مازال يكتنف طريقنا ويمكن رصد ذلك من خلال الحقائق التالية:
* أولاً: إن الحرب الإعلامية السائدة على المسرح السياسي المصري وتبادل الاتهامات الخطرة والتجريح الممنهج ضد كل من يسعى إلى موقعٍ في الحياة العامة التي تسود البلاد، وذلك لأن سنوات القهر السياسي، بل وقرون السيطرة على مقدرات الناس وأفكارهم، قد أدت إلى نتائج سلبية وخلقت نوعاً من الثقة المفقودة مع غيابٍ في الرؤية وضعف في الخيال وقصورٍ في إعطاء الأمور حجمها الطبيعي .
* ثانياً: إننا نراهن على المستقبل من دون أن نضع أقدامنا على أرض ثابتة تسمح بوجود ضمانات حقيقية لسلامة ذلك المستقبل، إذ إن معالجتنا للمشكلات الحالية هي معالجة عادية وباهتة وأقرب إلى نموذج المعالجة في الأوضاع الطبيعية، بينما نحن في وضعٍ استثنائي يحمل في طياته كل الاحتمالات بل والمخاطر، ولعل موضوع "سد النهضة الإثيوبي" هو نموذج بامتياز لأسلوب التخبط الذي وقعنا فيه في الفترة الأخيرة رغم أنه يتصل بأكثر الأمور ارتباطاً بحياتنا، وهل هناك ماهو أهم من الماء الذي (جعلنا منه كل شيء حي) . إننا نتعرض لاستهدافٍ كارثي ولكننا نأخذ الأمر كما لو كان قضية عادية أو مسألة عابرة ولا نعطي ذلك الملف أهميته القصوى التي تتلاءم مع مستقبل الوطن، وهو أمر لا يحتمل التأويل أو التأجيل، إننا أمام خطرٍ داهم جرى تدبيره ضد مصر في غطرسة وكيدية لم نر لهما نظيراً في تاريخ علاقتنا المعاصرة مع إفريقيا .
* ثالثاً: إننا نطالب بمزيدٍ من الشفافية في حياتنا السياسية لأننا نرى أن رواسب الماضي تتسرب أحياناً، ومخاطر الحاضر تتضاءل أحياناً أخرى، والأجيال القادمة هي التي سوف تدفع "الفاتورة" النهائية لذلك كله، إننا نطالب بدراسات مستفيضة وأبحاث متعمقة وبرامج واضحة للمستقبل، وفقاً لمنهجٍ علمي يقوم على أسس واقعية ويعترف بأوجه القصور ويبتعد عن الأحلام الوردية وعبارات الاستهلاك المحلي والأخبار التي تخدر التفكير وتدعو إلى الاسترخاء بغير مبرر، لأن ما نواجهه أقسى بكثير مما توقعناه، إن الخطر يأتينا شرقاً من سيناء، حيث المعارك الدامية مع التكفيريين والجهاديين، وكأنها "حرب استنزافٍ" طويلة المدى، وغرباً من ليبيا التي أصبحت مستودعاً للسلاح الذي يجري تهريبه إلى مصر لإذكاء الفتنة وإشعال نيران الصراع فضلاً عن استهداف المصريين على أرضها وقتل الأقباط "بالهوية" وكأنها "جريمة إبادة للجنس البشري" تتستر وراء الدين وهو منها براء، كل ذلك من دون ضمانٍ من الجنوب، فالسودان متقلب في سياسته وغير صادق النوايا تجاه مصر في الظروف الحالية لأسباب كثيرة لا تخفى على أحد! خصوصاً بعد زيارة أمير قطر . لها والمنحة السخية التي تركها لحكومة الخرطوم، كما أن محاولات تعزيز علاقتنا "بجنوب السودان" تجري محاولات لتخريبها بشكل أو بآخر، ولا تبدو "الجارة الصهيونية" بعيدة عن ذلك!
* رابعاً: إن المحنة التي تمر بها مصر تحت مسمى "الثورة" التي يجب أن تكون دافعاً إلى الأمام وليست خطوة إلى الخلف لأن الإصلاح هو النتيجة الطبيعية لثورات الشعوب لا الاستغراق في الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات من دون نهاية، إن دهاء الماضي يعلمنا وضوح المستقبل وشفافية الخطوات التي نتخذها نحوه، فثورة بغير إصلاح هي حدثٌ عنيف يسحب من رصيد الأمة ولا يؤثر إيجاباً في مستقبلها، إننا يجب أن ندرك جميعاً أن المستقبل شراكة للجميع وأن الشعب المنقسم على نفسه لا يشيد دعائم الغد بالقوة نفسها التي يشيدها بها مجتمع متماسك متجانس فيه القبول المتبادل من كل طرف تجاه الآخر، إنني "إصلاحي" النزعة ولكني لست ضد مفهوم "الثورة" في الوقت ذاته، فالثورة هي فوران المشاعر النابعة من القلب أما الإصلاح فهو برنامج العمل الصادر من العقل الذي يعلي قيمة التفكير، وهو الطريق الأوحد للبناء على أرض صلبة ودعائم ثابتة .
* خامساً: إن التعليم هو بوابة المستقبل، والشباب هو رصيد الأمة لذلك جرى استهدافهما بشكل ملموس في الفترة الأخيرة، ولعل ما يجري في بعض الجامعات المصرية يومياً هو دليل على أن الذين يريدون أن يضربوا مصر في مقتل يقومون بذلك مستغلين "دهاء الماضي" من أجل تشويه الحاضر وتحطيم المستقبل، إنهم يضربون عصفورين بحجرٍ واحد، فهم يعطلون العملية التعليمية أولاً ويجرفون الشباب نحو طريقٍ لا نهاية له ثانياً، وبذلك يخسر الوطن المصري مرتين، وتتراكم مشكلاته وتتعقد ظروفه، ويكون الرابح الوحيد هم أعداؤه، والخاسر الحقيقي هم أجياله القادمة! وكلما طالعت في الصحف أو مصادر الإعلام الأخرى ما يجري في الجامعات المصرية شعرت بأن المخطط الخبيث يمضي في طريقه من دون مراعاةٍ للمصالح العليا للبلاد أو الحقوق التاريخية التي اكتسبتها مصر من ميراثٍ حضاري وتراكم ثقافي وتاريخ لا نظير له .
. . هذا طواف عاجل بما يدفعنا إليه "دهاء الماضي" حتى نصل إلى "غموض المستقبل" وتلك هي قضية القضايا لأنها مسألة تتعلق بالمنهج الفكري قبل أن ترتبط بالمستقبل السياسي .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"