كذبة أخرى وليست أخيرة

04:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

لم يأت رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو بجديد عندما ادعى كذباً أن فكرة إبادة اليهود أو المحرقة لم تكن من ابتكار الزعيم النازي الألماني اودلف هتلر، ولكنها كانت لمفتي القدس الراحل الحاج أمين الحسيني.

ليست هي أول مرة يذكر فيها هذا الخبل، وسبق أن قال أمام الكنيست عام 2012 إن الحسيني هو مهندس ما يعرف بالحل الأخير، وهو الاسم الذي أطلقه النازيون على خطة التخلص من اليهود أو الهولوكوست.
يحدد خبراء الإعلام مجموعة من الأساليب والتكتيكات التي يتبعها الإعلام والسياسيون للتأثير في عقول الجماهير وخداعها. واحدة من تلك الأساليب هي تزييف الحقائق التاريخية. ولم يفعل نتنياهو غير ذلك. وهذه ليست أول أكاذيبه ولن تكون الأخيرة بالتأكيد.
المثير للدهشة أنه من بين كل القادة عبر التاريخ اختار أعدى أعداء اليهود أي هتلر ليطبق نصيحته التي قال فيها «سواء جعلت الكذبة كبيرة أو صغيرة استمر في ترديدها وتكرراها وفي النهاية سيصدقونها». إنها فحوى نظرية الكذبة الأعظم التي طبقها النظام النازي تحت اشرف وزير إعلامه الشهير جوزيف غوبلز. تؤكد هذه النظرية أنه مهما بلغ تهافت أي كذبة سيصدقها الناس إذا تكررت بما فيه الكفاية.
لذلك لن يمل نتنياهو من تكرار أكذوبته التي رددها أمام المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس المحتلة، حيث تحدث عن حوار من نسج خياله دار بين هتلر والحسيني خلال زيارته إلى برلين واجتماعه مع الزعيم النازي. في هذا اللقاء ووفقاً لرواية نتنياهو، المسكونة بالكذب بل بالحمق، أبلغ هتلر الحسيني أنه يريد طرد اليهود من ألمانيا، إلا أن المفتي حذره من القيام بذلك لأنهم سيأتون إلى فلسطين. وعندما سأله هتلر (وقد أعياه التفكير) عما يجب القيام به، أشار عليه الحسيني بأن يحرقهم في ألمانيا كحل مناسب.
لا يتسع المقام لسرد كل ما فجّرته هذه التصريحات سواء من ردود علمية جادة من جانب مؤرخين معظمهم يهود، أو من تعليقات ساخرة ومستهزئة برئيس الوزراء «الإسرائيلي» الذي اعتبره البعض ساخراً من منكري المحرقة وهي جريمة خطرة في الغرب. بينما علق آخرون بأن نتنياهو اكتشف أخيراً أن الفلسطينيين هم الذين أغرقوا السفينة تايتانيك، وهم أيضاً المسؤولون عن انقراض الديناصورات، وانفصال فريق البيتلز البريطاني للموسيقى.
أحد الرسوم الساخرة ظهر فيه هتلر يقول لقد كنت أحب اليهود حتى قابلت ذلك المفتي وأنتم تعرفون ما حدث بعدها. رسم كاريكاتيري آخر نشرته جريدة «هاآرتس» يظهر فيه مدرس تاريخ يهودي يشد أذن نتنياهو ويوبّخه لعدم مذاكرة دروسه، بينما في الخلفية يطل هتلر برأسه من حفرة وترتسم على وجه علامات الامتنان قائلاً «شكرا بيبي» وهو اسم التدليل لنتانياهو.
وبالفعل فقد قدم نتنياهو خدمة جليلة للعدو التاريخي للشعب اليهودي بأن برأ ساحته من مسؤولية فكرة إبادة اليهود وأصبحت جريمته التنفيذ فقط، بينما العقل المدبر للمذبحة هو الحسيني.
بالتأكيد لم يرد نتنياهو ولم يسع إلى هذه النتيجة، ولم يفكر قط في أنه يقدم صك البراءة لهتلر. كل ما أراده هو تشويه الفلسطينيين وتقديمهم إلى العالم باعتبارهم المسؤولين، أو المشاركين في محرقة اليهود. وهذا التوقيت مهم بالنسبة إليه لتصدير وتسويق هذه الصورة في وقت يتعرض فيه الفلسطينيون لعمليات إبادة حقيقية على أيدي قوات الاحتلال «الإسرائيلية».
وعندما يردد نتنياهو مثل تلك الأكاذيب فهو يراهن على ضعف ذاكرة الشعوب، وكذلك على حقيقة معروفة هي أنه ليس كل الناس، أو حتى معظمهم على دراية بالتاريخ. وبالتالي فمن الممكن تمرير رواية تاريخية لتعزيز مصالح جهة ما، أو تشويه خصومها وأعدائها. ولن تبحث الجماهير عن الحقيقة.
هذا صحيح بالطبع، إلا أن المؤرخين ليسوا مثل كل الناس، لذلك جاءت أهم الردود على لسانهم وجاءت في معظمها لاذعة وقاسية في نقدها لنتنياهو. ومن سوء حظه أن ادعاءاته هذه المرة استفزت على نحو خاص المؤرخين اليهود الذين هالهم أن يعفي رئيس وزراء «إسرائيل» النظام النازي من مسؤولية التفكير في ارتكاب المحرقة.
أحد هؤلاء المؤرخين وهو توني كوشنر أستاذ التاريخ بجامعة ساوث هامبتون ومؤلف كتب عدة حول المحرقة له تعليق لاذع يقول فيه إن نتنياهو أثبت أنه كمؤرخ لا يقل سوءاً عنه كسياسي، وأنه من الأفضل لو ترك المجالين وفعل شيئاً مفيداً في حياته. مؤرخ آخر هو الدكتور ديفيد موتاديل وهو مؤلف كتاب بعنوان «الإسلام وحرب النازي» يعتبر أن الموضوع محسوم من الناحية التاريخية، فمثل هذا الحوار الذي اخترعه نتنياهو لم يحدث قط، والحسيني لم يتورط في الهولوكوست. والحقيقة الثابتة والموثقة هي أن قتل اليهود على الجبهة الشرقية بدأ أواخر صيف 1941 أي قبل وقت طويل من زيارة المفتي لبرلين.
الردود الجادة المماثلة كثيرة وكلها تفند ادعاءات نتنياهو وتثبت كذبها، بما في ذلك رد الحكومة الألمانية نفسها التي أكدت مرة على لسان المستشارة ميركل، وأخرى من خلال المتحدث باسمها أن المحرقة كانت من صنع ألمانيا وحدها ومن مسؤوليتها وحدها أيضاً.
لن يتوقف نتنياهو رغم افتضاح أمره على ذلك النحو المشين. سيواصل إعادة كتابة التاريخ، أو بالأحرى تزويره على هواه، ولن يمل الأكاذيب أو يخجل من اختراعها. التاريخ يمتلئ بأمثال هؤلاء، ولحسن الحظ فإن مكب نفاياته يتسع لهم جميعاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"