الصراع حول الأسماء والكلمات

03:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يشكل الصراع حول الأسماء والكلمات بكل ما تحمله دلالاتها من رموز سياسية وثقافية ودينية إحدى التجليات الرئيسية للنزعات والحروب التي تدور رحاها في الكثير من مناطق الجغرافيا السياسية المعاصرة، بعضها ينطلق من خلفيات مؤسسة على مرجعيات تاريخية ومعرفية صلبة، بينما يغرق بعضها الآخر في مستنقع صياغات بلاغية فارغة ليس لها أدنى سند واقعي أو معرفي يدعمها، وتهدف بالدرجة الأولى إلى السيطرة على الرموز والمرجعيات الهوياتية المشتركة للشعوب من خلال استثمارها وتوظيفها في سياقات سياسية ملتبسة ومشبوهة.
ويمكننا أن نقدم في هذا السياق أمثلة عديدة تبرز طبيعة النموذجين المختلفين لهذا النزاع المتعلق بالأسماء والكلمات، فبعد مرور أكثر من 27 سنة من التوتر والصراع ما بين اليونان وجمهورية مقدونيا منذ انهيار الاتحاد اليوغوسلافي، توصلت مؤخراً أثينا إلى اتفاق مع حكومة سكوبي من أجل اعتماد تسمية جديدة لكيانها الوطني قائمة على التحديد الجغرافي تحت مسمى «جمهورية مقدونيا الشمالية»، تمييزاً لها عن مقاطعة مقدونيا اليونانية التي تمثل إرثا تاريخيا للأمة اليونانية، وذلك لتجنب أي استثمار سياسي من قبل سكوبي لهذا الاسم من أجل الحصول على مكاسب جغرافية في المستقبل من جهة، وللمحافظة على الشحنة الرمزية التي تحيل إليها إمبراطورية الإسكندر المقدوني التاريخية بالنسبة لليونانيين من جهة أخرى.
وزيادة على هذا البعد الحضاري للأسماء والكلمات، فإن أبعادها الدينية عادة ما تفرز أوضاعا أشد توتراً وخطورة على الاستقرار داخل الدول وخارجها، فقد حدث في ماليزيا خلال السنوات القليلة الماضية صراع مجتمعي بين المسلمين والمسيحيين حول استخدام المسيحيين لاسم الجلالة «الله»، وذهبت الكثير من الجمعيات الإسلامية الماليزية إلى أن استعمال هذا الاسم من قبل المسيحيين غير مقبول، لأنه جزء من تراث المسلمين الماليزيين الناطقين باللغة المالاوية، التي كانت تكتب بالحروف العربية قبل المرحلة الاستعمارية.
وبالتالي فإن نقطة الاعتراض الرئيسية للمسلمين تكمن في أن المسيحيين لا يستعملون لغات الأقليات الهندية والصينية في ماليزيا ولكنهم يتكلمون اللغة المالاوية التي تتوفر على الكثير من الكلمات العربية والإسلامية ومن بينها اسم الله، ومن شأن ذلك أن يساعدهم على ممارسة نشاطهم التبشيري في صفوف الناطقين بهذه اللغة الذين قد لا يرى بعضهم ضيرا في أن ينتقل من دين إلى آخر ما دام اسم الله بكل شحناته الدينية والعاطفية والإيمانية موجود عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء، لأن الأعجمي الذي يجهل أصل الأسماء ودلالاتها في اللغة العربية، عادة ما يقدس الدال على حساب المدلول ويفتتن باللفظ دون المعنى.
أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط فإن أبرز مثال على هذا الصراع حول الرموز، يتمحور حول مدينة القدس التي تريد «إسرائيل» تهويدها وإفراغها من مقدساتها الإسلامية والمسيحية، لتبني على أنقاضها معالم أورشليم البائدة من خلال التخطيط لهدم المسجد الأقصى، الذي كان ومازال يرمز إلى هوية القدس العربية والإسلامية، وصولا إلى إعادة بناء الهيكل من أجل ابتداع جغرافية وفضاء معماري مغايرين يسمحان باستبدال الاسم الواقعي والمادي لهذا المكان، الذي يتطابق فيه اللفظ مع المعنى، باسم أسطوري لا وجود له إلاّ في نصوص الأحبار.
كما أن رموز الإسلام السياسي في صورتيه الشيعية والسنية، يسعون منذ عقود إلى السطو على الأسماء والكلمات، وإلى توظيفها خارج سياقاتها التاريخية بعيداً عن مرجعياتها الأصلية، من خلال جعل قاموس القرآن الكريم ومعجميته عرضة للاستغلال السياسي. وقد تحوّل نتيجة لذلك اسم «حزب الله» في الكتاب المقدس للمسلمين إلى عنوان إشهاري يحتكره تنظيم سياسي لبناني ينطلق من خلفية طائفية، وأصبح اسم «أنصار الله»، الذين يخاطبهم الله في محكم تنزيله بقوله: «يأيها الذين آمنوا كُونوا أنصارَ اللهِ» إلى آخر الآية 14 من سورة الصف، يمثل غطاءً سياسيا لميليشيات الحوثي في اليمن؛ تماما كما سبق أن وُظّفت الآية 40 من سورة يوسف «إِنِ الحُكمُ إلاّ لله» من طرف الخوارج لسفك دماء المسلمين، ومن طرف التيار القطبي في حركة الإخوان المسلمين لتكفير أنظمة الحكم في الوطن العربي.
بيد أنه وعلى خلاف ما يمكن أن يتبادر إلى أذهاننا من أن هذا الاستثمار المتنامي للأسماء والكلمات هو ترجمة للإجلال الذي تحظى به التجليات الثقافية على حساب العناصر المادية المعاصرة، فإن الوقائع الملموسة تشير، كما يقول رجيس دوبريه، إلى أننا نعيش الآن في زمن الكلمة السريعة المثيرة والفارغة، التي نتفنن في نشرها عبر وسائط التواصل الاجتماعي؛ فنحن نحيا في عالم الاقتصاد والأرقام وليس في عالم الفكر، ومن ثمة فإن الكلمات نفسها لم تعد فكرية بقدر ما صارت إعلامية، كما أن الذين يصنعون الأفكار لا ينطلقون من أروقة المكتبات ولكنهم يتحركون عبر منصات الإعلام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"