سياسة هولاند الخارجية بعد عام في الإليزيه

04:34 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ بداية الجمهورية الخامسة تميزت السياسة الخارجية الفرنسية بقدر كبير من الاستمرارية، أو ما يسميه أوبير فدرين بالتوافق الديغولي - الميتراني، بمعنى آخر السياسة الواقعية المنكبّة على الدفاع عن المصالح الوطنية من خلال التوازنات الجيواستراتيجية الدولية وليس سياسات المحاور .

الرئيس السابق ساركوزي الذي تأثر كثيراً بالمحافظين الجدد الأمريكيين، حاول إحداث قطيعة وعد بها خلال حملته الانتخابية مع هذه السياسة، لكنه لم يوفق، فالتدخل في ليبيا لايشكل قطيعة حقيقية ولا استثناءً في العمل الخارجي . منذ نهاية الحرب الباردة تدخلت فرنسا عسكرياً في البوسنة (1992-1996) وكوسوفو (1999) وأفغانستان (2001)، فضلاً عن مشاركتها في الائتلاف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة ضد صدام حسين الذي احتل الكويت في العام 1990 .

الرئيس هولاند اختار معادلة هي توليفة بين المصالح والمبادئ . ففي خطابه أمام سفراء فرنسا المجتمعين في الإليزيه في 27 أغسطس/ آب الماضي قال: سوف نخدم مصالحنا عندما نؤكد تعلقنا بالديمقراطية واحترام القانون ومكافحة الفساد . واحترام القانون يعني أولاً احترام الشرعية الدولية . وهكذا فالرئيس الاشتراكي الثاني (بعد ميتران) في الجمهورية الخامسة يضع نفسه في التقليد الفرنسي وفي التوافق الأوروبي: مجلس الأمن هو جهاز الشرعية الدولية لاسيما في ما يتعلق بعمليات حفظ السلام أو حماية المدنيين، والقوات الفرنسية المنتشرة في الخارج تقع تحت مظلة مجلس الأمن وبتكليف منه .

بالطبع لا تجهل باريس الإشكاليات المتعلقة بتمثيل مجلس الأمن لتوازن القوى الناشئ عن الحرب العالمية الثانية . وهي تؤيد إصلاحات تسمح بدخول دول مثل الهند ونيجيريا والبرازيل وإفريقيا الجنوبية كأعضاء دائمين إلى المجلس، إلى جانب الأعضاء الحاليين، لكن في الوقت نفسه لا تريد أن تتخلى عن حق النقض (الفيتو) الذي يرمز إلى موقعها كقوة عظمى عالمية .

لكن الرئيس هولاند لا يمتلك عقيدة سياسية حيال الأزمات الدولية بل يفضل التعامل مع كل حالة على حدة . فمثلاً بالنسبة إلى سوريا حدد لنفسه الخط الأحمر ذاته الذي رسمه الأمريكيون: استخدام دمشق السلاح الكيميائي . وهو يتكلم عن ظروف، لا يحددها، تدفع المجموعة الدولية إلى التدخل العسكري من خارج الأمم المتحدة . في أزمات أخرى (مالي على سبيل المثال) يخضع قرار التدخل العسكري لمعايير أخرى في غياب قاعدة عامة . ولكن المبدأ الأساسي يبقى هو نفسه: الأمم المتحدة قبل كل شيء .

في القارة الأوروبية ورث هولاند المعادلة الدبلوماسية التقليدية الفرنسية نفسها: التعاون مع ألمانيا لا بديل له، لكنه ليس استثناءً حصرياً . فهو يحترم الالتزامات التي وضعها أسلافه لأنفسهم في موضوع المالية العامة (عودة التوازن إلى الموازنة في العام 2017)، وحاول إقناع المستشارة الألمانية ميركل بقبول سياسة النمو في أوروبا بديلاً من التقشف . وللضغط عليها لجأ إلى رؤساء حكومات محافظين مثل الايطالي ماريو مونتي والإسباني ماريانو راخوي فاقترح اندماجاً تعاونياً لأوروبا عبر الالتزام الأكيد بمساعدة بلدان اليورو التي تعاني الصعوبات، وذلك في انتظار الاتحاد السياسي الذي لا تفهمه ميركل إلا من خلال الانضباط المالي والنقدي .

في إفريقيا جنوبي الصحراء وعد هولاند بسياسة جديدة قائمة على التشدد في تطبيق القواعد الديمقراطية، وهو وعد لطالما كرره أسلافه قبل أن يطويه النسيان، منذ خطاب ميتران الشهير في مدينة بول الفرنسية العام 1990 الذي جعل من الانتخابات النزيهة الحرة شرطاً للتعاون مع القادة الأفارقة .

كما أنه اختلف مع سلفه ساركوزي في موضوعي أفغانستان والعلاقة مع حلف الأطلسي . فقد وعد خلال حملته الانتخابية بسحب القوات الفرنسية المقاتلة في أفغانستان في نهاية العام 2012 وفعل مبرراً ذلك أمام قمة الأطلسي الأخيرة بأن أهداف التدخل في أفغانستان قد تحققت (مكافحة الإرهاب)، وأن تأسيس دولة أفغانية قادرة على الحياة يمر من الآن وصاعداً عبر التعاون المدني . في المقابل وقف هولاند ضد عودة فرنسا إلى القيادة المدمجة لحلف الأطلسي، وهي عودة كان ساركوزي قد وعد بها في العام 2007 . فبعد انتخابه كلّف أوبير فدرين بإعداد تقرير عن الرأيين اللذين تقدم بهما ساركوزي لتبرير القطيعة مع المبدأ الديغولي الشهير: النفوذ المتزايد لفرنسا في أجهزة القرار داخل الحلف، واندفاعة الحلف في اتجاه سياسة دفاعية أوروبية موحدة . عن النقطة الأولى قال تقرير فدرين إن المحصلة ضعيفة، فقد حصلت فرنسا على موقع قيادي هامشي، وعن النقطة الثانية، فإن أوروبا الدفاعية لا تزال بعيدة المنال بسبب ضعف الإرادة السياسية والنقص في الموارد والوسائل لاسيما في وقت الأزمة الاقتصادية هذا . لذلك قرر هولاند الاستمرار في التعاون العسكري مع بريطانيا، البلد الأوروبي الثاني الذي يمتلك موازنة دفاعية معتبرة . لكن البريطانيين يفضلون الاتفاقات الثنائية على المساهمة في بناء أوروبا دفاعية موحدة .

كل هذا لا يشكل عقيدة جديدة في السياسة الخارجية الفرنسية، على الرغم من أن الرئيس هولاند يرى بلاده قوة عظمى دولية (على عكس فاليري جيسكار ديستان الذي كان يعتبرها قوة متوسطة) . وبعد سنة من حكمه لا يبدو أنه يتعاطى بطريقة جديدة مختلفة عن أسلافه في القضايا الدولية . وهو يسعى إلى توثيق العلاقات مع القوى البازغة آخذاً في الاعتبار الجغرافيا الجديدة للعولمة في عالم قال عنه يوماً إن من أهم سماته اللااستقرار .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"