ما لا يستحق أن يقال

05:54 صباحا
قراءة 3 دقائق

في تهكم لاذع يردِّد حلاق إشبيلية أن ما لا يستحق أن يقال يصبح أغنية يغنيها المغنّون، كم ينطبق هذا القول على مؤلفي الأغنية العربية في زماننا الذي نعيش، فانحطاط الكلمات والمعاني والصور والإيحاءات، إذا أضيف إليه انحطاط الأداء والإخراج البصري، ينبئ بوجود مسافة ضوئية شاسعة بين عالم مؤلفي وملحني ومغني الأغنية العربية وعالم أمتهم ووطنهم، وهي مسافة تطرح أسئلة جدية حول أزمة الالتزام القومي والوطني والأخلاقي والضمير الإنساني التضامني في الوسط الفني العربي.

دعنا أولاً التأكيد، خصوصاً لرافعي شعار الفن للفن ولرافضي فكرة المسؤولية الاجتماعية لكل أنواع الفن وممارسيه، أننا لا نطلب شيئاً غير مبثوث في التاريخ وفي كل زوايا الجغرافيا. ففي القرن العشرين استعملت الأغنية في نضالات الأحزاب والنقابات وحركات التحرر والاحتجاجات الجماهيرية. ولعل أسطع الأمثلة كانت أغنية نحن سنتغلب الشهيرة التي رددتها الجماهير الأمريكية بقيادة قائدها مارتن لوثر كنج، وهي تناضل من أجل مساواة السود بالبيض. وللمناضل مارتن كنج قول مشهور يؤكد أن الأغاني كانت اللبنات التي حافظت على حيوية ووحدة الحركة. ويذكر الكثيرون منا الأغاني الفولكلورية الجميلة التي غناها شباب أمريكا ضد حرب فيتنام فأشعلوا الحماس في حركة المقاومة لتلك الحرب الجائرة.

ولقد لعبت الأغنية دوراً بارزاً في كثير من حروب التحرير والانتفاضات الشعبية في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا. بل لماذا نذهب، نحن العرب، بعيداً عن التاريخ والجغرافيا، وقد كانت أمامنا الأغنية العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي إبّان صعود الموجة القومية العربية بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر؟ وحتى في أيام الأغنية العولمية الهابطة التي نعيشها يستمع الإنسان للكثير من الأغاني في المجتمعات الغربية التي تتحدث كلماتها عن قضايا تدمير البيئة والعدالة والظلم الاجتماعي والتوق للحرية والكره للنظام الدولي العولمي السائد.

إزاء ذلك ينطرح السؤال التالي: هل هناك أمة في الدنيا أكثر تمرُّغاً في عذابات الاحتلال الامبريالي والاستبداد الداخلي والظلم الاجتماعي والفساد الذممي والانقسام القومي والضياع السياسي الثقافي من هذه الأمة؟ ألسنا نعيش يومياً أحزان وكوارث الأوضاع في فلسطين والعراق والسودان والصومال ولبنان وهوان هذه الأمة على نفسها وأمام العالم كله؟ هل حقاً أن الدماء التي تسيل في شوارع بغداد المحتلة وغزة المحاصرة، وأن طوابير الجياع في مقديشو والقاهرة، وأن مساجين الإذلال في جوانتانامو وأبوغريب، وأن الشلل في الإرادة والكرامة الذي أصاب النظام العربي القومي والأنظمة العربية الوطنية.. أن كل ذلك لا يستأهل تغيير مسار الأغنية العربية الحالية لتشارك في حمل جزء من هذه الهموم ولتشارك في حمل مسؤولية مواجهة هذه الأهوال؟

ليس المطلوب أناشيد طلابية حماسية وليس المطلوب طبول حرب. المطلوب هو فن غنائي جماهيري رفيع يسلِّي ويطرب ولكن في الوقت نفسه يساهم في إبعاد الشعور بالضياع والهوان واللامبالاة عند الشباب العربي وفي فتح آفاق جديدة لتاريخ ومستقبل هذه الأمة المنكوبة. ذلك لأن الغالبية الساحقة من الأغاني العربية الحالية تقوم على الكلمات البليدة فتبعث على السأم وتدخل الكآبة في العقول ولا تستفز إرادة ولا تبعث تعلقاً بالحياة في سامعيها. إنها أغنية تختزل الحياة في حب شاب عابث لشابة وفي آهات شبقية منفّرة يائسة وفي تجاهل لنكبات المهمّشين والجياع وفي حياد تجاه ضياع الأوطان، وبالطبع فإن ذلك لا ينكر وجود محاولات نادرة مضيئة تضيع في أودية اللامبالاة الفسيحة.

منذ بضع سنين صرخ الكاتب البريطاني: أسأل نفسي، كيف استطاع أولئك الذين لا يكتبون أو يؤلفون أو يرسمون تجنّب إصابتهم بلوثات الجنون والكآبة والذعر والهلع التي يتوارثها الوضع الإنساني؟ أطرح نفس السؤال على مؤلفي وملحني ومغني الأغنية العربية البائسة.

هل هرباً من حالات الجنون والكآبة والذعر التي يعيشها الوضع العربي يصدحون ليل نهار بما لا يستحق أن يقال؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"