ماكرون بين بوتين وترامب

05:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

انعقد مؤتمر ميونيخ السنوي للأمن هذه السنة في الفترة ما بين 14 و16 فبراير/ شباط الجاري، بحضور العديد من زعماء العالم، في سياق بات يغلب عليه تراجع الزعامة الأمريكية على المستوى الغربي والعالمي، ويتميز بتزايد الصراع بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى؛ وقد صرّح الرئيس الفرنسي ماكرون في المؤتمر أن روسيا ستواصل محاولتها الرامية إلى زعزعة استقرار الديمقراطيات الغربية من خلال التلاعب بوسائط التواصل الاجتماعي أو من خلال عمليات يتم القيام بها في الفضاء السيبراني. بيد أنه وبالرغم من هذه الانتقادات المباشرة التي وجهها لروسيا إلا أن التقارب بين ماكرون وبوتين خلال الشهور الماضية أضحى يمثل علامة مميّزة بالنسبة للمتابعين للسياسة الفرنسية.
ويأتي هذا التقارب الفرنسي - الروسي بعد محاولات عديدة قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية سنة 2017، من أجل نسج علاقات قوية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، استطاع من خلالها أن يكون لفترة وجيزة أكثر المسؤولين الغربيين قرباً من ترامب، لكن المزاج المتقلب لهذا الأخير وتأكيده المتواصل على شعار «أمريكا أولاً»، أدى به إلى الابتعاد تدريجياً عن ماكرون بداية من رفضه لاتفاق باريس حول المناخ مروراً بتدخله في الشؤون الداخلية الفرنسية وانتقاده المباشر لأسلوب إدارة ماكرون لأزمة «السترات الصفراء»، ووصولاً إلى خذلانه لفرنسا على مستوى الملفات الكبرى المتعلقة بأوروبا والشرق الأوسط؛ الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي إلى اتخاذ مواقف قوية من حلف الناتو عندما قال عنه أنه بات في حالة «موت سريري».
أما بالنسبة للاتهامات الموجّهة لماكرون بشأن الانعطاف الحالي لفرنسا نحو موسكو، فإنه يرد عليها بقوله إنه «ليس لا مؤيداً لروسيا ولا معارضاً لها ولكنه مؤيد لمصالح أوروبا»، مؤكداً في السياق نفسه أن على أوروبا أن تتحاور مع روسيا للتوصل معها لإستراتيجية لخفض التصعيد لتحقيق شفافية مشتركة في العلاقات معها من خلال اعتماد حوار إستراتيجي مع الكرملين، لأن الوضعية التي توجد فيها أوروبا الآن هي الأسوأ بحسب وجهة نظره. وتثير هذه المواقف الإيجابية لماكرون من موسكو، مخاوف الكثير من الدول الأوروبية المنحازة للأطروحات الأمريكية لاسيما في شرق أوروبا وتحديداً بولندا، التي زارها الرئيس الفرنسي يوم 4 فبراير الحالي لطمأنتها ولتحذيرها في الآن نفسه من التنكر للمبادئ الأوروبية.
ويشير المتابعون للسياسة الفرنسية إلى أن التقارب الكبير بين ماكرون وبوتين بدأ منذ أكثر من سنة وتمثل في جملة من الخطوات من أبرزها إعلانه خلال شهر مايو/ أيار من السنة الماضية عن ترحيبه بعودة روسيا إلى المجلس الأوروبي بعد أكثر من خمس سنوات على مغادرتها له بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، وقال الرئيس الفرنسي بعدها في منتصف شهر أغسطس في قمة السبعة الكبار، إنه أضحى من الملائم أن تتمكن روسيا في المستقبل المنظور من الانضمام مجددا إلى مجموعة السبعة، واستقبل في 19 من الشهر نفسه نظيره الروسي فلاديمير بوتين بحفاوة، كما دعا في نهاية الشهر ذاته في اجتماع للسفراء الفرنسيين إلى تطبيع العلاقات مع روسيا قائلاً: «إن على بلاده إعادة التفكير في روابطها مع روسيا لأن دفعها بعيداً عن أوروبا يعتبر خطأً فادحاً، لأن أوروبا لا يجب أن تبقى مسرحاً إستراتيجياً للصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا».
ونستطيع أن نلاحظ بشكل ملموس أن الرئيس الفرنسي قد ذهب بعيداً في التعبير عن تقاربه مع موسكو عندما قال إنه مستعد لأن يقدم لها بعض الضمانات إذا كان الأمر يتعلق فقط بعدم اقتراب الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من حدودها.
نخلص في الأخير إلى أن التحولات التي عرفتها السياسة الخارجية الأمريكية منذ انتخاب دونالد ترامب، دفعت العديد من قادة أوروبا الغربية وتحديداً في ايطاليا وفرنسا إلى إعادة التفكير في خريطة التحالفات العالمية، نتيجة لغياب أجندات متجانسة بين دول أوروبا من جهة ودول حلف الناتو من جهة أخرى، وبالتالي فإن دول غرب أوروبا وفي مقدمتها فرنسا مضطرة للاختيار بين عرض بوتين المتعلق بتأسيس شراكة إستراتيجية وبين دعوة ترامب للقارة العجوز إلى مزيد من التبعية لبلاده.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"