مناظرات ما بعد «شارلي-ايبدو» في اليسار الفرنسي

03:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي
لا تزال تداعيات جريمة «شارلي-ايبدو»، في السابع من يناير/‏كانون الثاني الماضي، حاضرة في الأوساط السياسية والثقافية الفرنسية. فقد شهدت الصحف الباريسية مؤخراً جدالاً بين رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس والكاتب المعروف إيمانويل تود الذي أصدر كتاباً بعنوان «من هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية» عن دار سوي، يتساءل فيه عن دواعي المظاهرة الحاشدة خلف الرئيس هولاند ووزرائه ورئيسهم وعدد من زعماء الدول، في ١١ من الشهر المذكور. هذا «الاستنفار التاريخي» يقرأه تود على أنه «مبالغة في الهستيريا وزخم قومي يتيح الخلط عشوائياً ما بين إسلاموفوبيا الطبقات الوسطى والميول الأوروبية لدى النخب التي تحتقر «عالم الشعب» الذي تتهمه بالتعاطف مع الإسلاميين».
يرى تود أن «حزب فرانسوا هولاند» بات مترسخاً في اليمين، ومظاهرة ١١ يناير بأنها دجل وبأن الاجماع السياسي والإعلامي وقتها كان بمثابة «فلاش توتاليتاري» منع الاستماع إلى أي تحليل نقدي مع أن الانتقادات كانت كثيرة منها، على سبيل المثال لا الحصر، موقف الرئيس السابق لأطباء بلا حدود روني برومان الذي كتب في «لوموند» مندداً بالتهويل المعنوي الذي جعله يقاطع المظاهرة، أو ما قاله الفيلسوف ألان باديو في الصحيفة نفسها بأن رئيس الوزراء فالس بدا وكأنه يريد سجن المتغيبين عن المظاهرة، وبأن جزءًا مهماً من الشعب الفرنسي غاب في هذا «اليوم التاريخي» وكان له رأي آخر تم التعتيم عليه.
كتاب تود دعوة لفهم ميكانيزمات السلطة الأيديولوجية والسياسية للمجتمع الفرنسي انطلاقاً من «لحظة شارلي». إنه تحليل جريء وعميق لما يسميه «الأزمة الدينية لأمة تكذب على نفسها بالادعاء أنها علمانية». صحيح أن المتظاهرين احتشدوا من أجل التسامح ولكن «القيم الخفية» القابعة في لاوعيهم ليست كذلك. ففي رأي تود ما يدفعهم في العمق هو الرغبة بتأكيد السلطة الاجتماعية وهيمنة فرنسا البيضاء، فرنسا الطبقات العليا التي تدافعت في الطرقات مدفوعة بطغيان الحاجة للبصق على دين الضعفاء. إنها فرنسا اللامساواتية ليس في دعواتها النظرية والواعية بل في تصرفاتها العملية واللاواعية، فالقوى التي تدعي انتماءها إلى الجمهورية ليست جمهورية في العمق والجوهر، كما يؤكد تود.
ويتابع، مدعوماً بالخرائط، بالقول إن هناك ثقافة كاثوليكية تحتية صمدت رغم تراجع الكنيسة، وهي التي تدفع الأفراد رغماً عنهم في اتجاه «جمهورية جديدة لامساواتية». ويلاحظ الفرق الكبير بين المظاهرات الكبرى في باريس وليون وتلك الأقل أهمية في مرسيليا. إنهم سكان الأرض القديمة الكاثوليكية الذين تظاهروا، في رأيه، في ١١ يناير. وهذه الأوليغارشية الكثيفة التي تقبل بالتمييز الاجتماعي حيال الفقراء وبدفع الشباب المسلم إلى الغيتوهات في ضواحي المدن الكبرى، هي التي تظاهرت في ذلك اليوم.
ويتساءل «ما العمل؟» محاربة «الهستيريا الجديدة المتعلمنة» والتي ليست سوى «دين» يجعل من الإسلام كبش فداء عبر الدعوة إلى «واجب رسم النبي محمد بالكاريكاتور».
كتاب تود هذا تسبب بردود فعل كثيرة بين مؤيد وشاجب. أبرز من رد عليه كان رئيس الوزراء فالس، عبر صحيفة «لوموند». ففي رأيه تحرَكَ  في ١١ يناير أربعة ملايين فرنسي أي فرنسا كلها كانت هناك كرجل واحد، ومن واجب السياسيين الاستماع إلى نداء الشعب والنزول إلى ساحة الأفكار ومحاولة العثور على الأجوبة المرضية. العلمانية هي شرط التسامح، والمتظاهرون لم ينزلوا إلى الشارع ضد الإسلام بل من أجل التسامح وضد «الجهاديين» الذين باسم الإسلام يتعرضون لدولة القانون وللقيم الديمقراطية ويقتلون مسلمين ومسيحيين ويهوداً. المتظاهرون الذين أنشدوا النشيد الوطني الفرنسي، رغم مشاربهم السياسية والأيديولوجية المختلفة، أعلنوا تمسكهم بالأمة الجمهورية وبطبيعتها العميقة التوافقية والتعاقدية التي شرحها الفيلسوف أرنست رينان (في القرن ١٩).
ويتابع فالس بأن الكاريكاتور كان على الدوام طريقة تعبير خاصة لعبت دوراً مهماً في بناء الرأي العام، ولطالما كان إلى جانب الضعفاء ضد الظلم والفساد و«الأقوياء». والكاريكاتور المتعلق بالنبي محمد هو إلى جانب أولئك الذين يتعرضون لتهديد الأصوليين وعنف المتعصبين الذين يقتلون ويرعبون ويدمرون. إن القول بأن الذين يقتلون هم الضعفاء هو انقلاب في القيم وتسميم للأفكار. هذا النوع من التبريرات يؤدي إلى نتائج كارثية لأنها تغري الكثير من الناس لاسيما في صفوف الشبان الذين يعتقدون بأن القتلة هم الضعفاء.
في رد تود على رد فالس انتقادات لاذعة لليسار الفرنسي عموماً والحزب الاشتراكي على وجه التخصيص. وزادت الحلقات النقاشية المتلفزة، كتلك التي جرت على شاشة «فرانس٢» في الثاني من مايو/‏ أيار الجاري بين الصحفي ايمريك كارون والكاتبة كارولين فوريست، من تظهير حالة التشوش الثقافي والسياسي الذي تعيشه فرنسا منذ ١١ يناير الماضي. وتبدو عملية «شارلي ايبدو» الإرهابية وكأنها أحيت حروب خنادق داخل اليسار الثقافي والسياسي وشطرته إلى قسمين: قسم يعتبر أن الدين أفيون الشعوب (ماركس) أو «وهم كبير» (فرويد) أو «انحراف» (فيورباخ) وأن «اليسار استقال عندما اعتبر أن الإسلام دين تسامح وسلام ومحبة» (الفيلسوف ميشال انفري) أو «إن اليسار مابعد الكولونيالي يندد بالإسلاموفوبيا المفترضة لمجلة شارلي ايبدو أكثر منه بالإرهابيين الذين ارتكبوا المجزرة» (كارولين فوريست في كتابها «مديح التجديف» الصادر عن دار غراسييه)..إلخ، وقسم ينظر إلى الإسلام على أنه دين الفقراء ومأوى للمضطهدين في الغرب وينبغي بالتالي الدفاع عنه ضد قوى الرجعية. وهكذا مثلاً أراد الفيلسوف بيار تيفانيان البرهنة، في كتابه «كراهية الدين» (دار لاديكوفرت) كيف أن «الإلحاد أضحى أفيون شعب اليسار»، والصحفي ادفيل بينيل تولى الدفاع عن المسلمين لأن «كره الدين الذي تعبر عنه علمانية، غير متسامحة وغير وفية للعلمانية الأصلية، ضد الإسلام ومعتنقيه هو نفي اجتماعي ونبذ للضعفاء والمضطهدين كونهم كذلك» (من كتابه «من أجل المسلمين» عن دار لاديكوفرت).
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"